د.أحد الدرداري
لقد تأثرت مكانة الاحزاب السياسية بالبيئة الاجتماعية التي تتواجد فيها وتأثرت بالانقسامات الطبيعية أو الثقافية والأزمة الاقتصادية، ذلك ان التعددية الحزبية حاولت تغيير انقسامات المجتمع الطبيعي الى انقسامات منظمة ومتنافسة سياسيا، لكن اصبحت تركز على الاهتمام بالمواقف السياسية البعيدة عن الاهتمام بالبرامج الانتخابية وتشابهت بذلك الوعود وسبل الوصول الى السلطة مما عاق الحسم في القضاء على الفساد والتخلف، وما تزال تركز على أدوار القيادة التقليدية لارتباطها بشيخوخة القيادات الحزبية، فتم تجاوز الاسهام في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، وهذا ما ابطل ادعاءها وقدرتها على ضبط وقيادة الرأي العام الى جانب دور السلطات، وضعف عندها رابط التواصل مع المواطنين بسبب المشاكل الانتخابية والوعود الكاذبة المتكررة بايجاد حل لمشاكل وقضايا انشغالات المواطنين . بل تحولت وضعيتها الى مشكلة ارتباطها بحدود النظام السياسي خصوصا مع اختلاق المشاكل بينها والاكتفاء بالضغط للوصول الى مواقع القرار في الدولة، ومع تكرار التجارب فقدت الثقة لكونها لم تساهم في التنمية بالشكل المطلوب وانكشفت الكثير من الخذع السياسية لديها، حيث ان الوعود والخطابات تكون قبل الوصول الى السلطة متطابقة نظريا مع طموحات ومطالب المواطنين ولكن عندما تصل الى الحكومة تنقلب رأسا على عقب وكأن مغرب النضال متعارض مع مغرب الوصول الى السلطة
فلو أن الأحزاب لها برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وتشتغل في ظل القانون، وكانت معارضة الاحزاب الخاسرة في الانتخابات في مثل هذه الظروف تمارس معارضة حقيقية وبناءة ، لأمكن لها أن تبرز دورها كحكومة الظل وتكون البديل للتناوب على السلطة.
و يمكن القول ان قاعدة الحزب المتصدر الانتخابات أوالحاصل على أغلبية المقاعد البرلمانية أو المتصدر للانتخابات، والذي يسيطر على البرلمان وبه يتم تشكيل الحكومة من خلال سلطته البرلمانية حسب الفصل 47 من الدستور، الذي يمنح للملك اختصاص تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر الانتخابات التشريعية وبناء على نتائجها، وذلك ما يجنب افلاس الأحزاب و حرب الأمناء ورؤساء الاحزاب حول السلطة خصوصا وان النتائج لا تحتكم للبرامج الحزبية.
وبناء على هذا يمكن القول ان الانتخابات التشريعية وان كانت نتائجها تراعى في التمثيل الحكومي من حيث المبدأ فان الفصل 47 ينقصه قانون تنظيمي ينظم اكثر ويحل مشاكل البلوكاج الحكومي وصعوبة تشكيل الحكومة طبقا للقانون، رغم ان السلطة الرمزية في الدولة هي التي تساعد على تخطي الصعوبات لكن التدخل يكون بعد هدر الزمن السياسي والتنموي. اما على المستوى الترابي الجهوي والجماعي فان الانتخابات تبدأ بالمشاكل وتنتهي بالفوضى في غياب تام لاعمال القانون الذي يؤطر العملية السياسية الترابية وعلاقتها بالشأن العام وكأن الاحزاب غير مؤهلة تلقائيا وطواعية، وهي بعيدة ثقافيا عن المصلحة العامة، ذلك ان الصراع بين السلطة المنتخبة بما فيها الأغلبية المشوهة والمعارضة الشكلية من جهة وبينها وبين السلطة الادارية مردها الى الفراغ القانوني المسكوت عنه في القانون ومنه :
اولا : لا يعقل انه بعد بداية الاعلان عن نتائج الانتخابات يتم الاتصال بين الاعضاء سواء كان نمط الاقتراع فرديا او باللائحة ويتم تهريب واخفاء الاعضاء الفائزين بحثا عن التكتل الاغلبي للفوز برئاسة المجالس وكاننا في غابة والسلطات ليس لها الحق في منع مثل هذه السلوكات المهينة للديموقراطية وللفائزين فيتم الاتفاق دون قواعد موضوعية على المناصب والامتيازات وهذا مدخل مسيء للديموقراطية والانتخابات.
ثانيا : في اطار دولة القانون بعد الانتخابات التشريعية يتم اللجوء الى الفصل 47 من الدستور لتعيين رئيس الحكومة بينما على المستوى الجهوي لا يوجد فصل قانوني يكرس نفس المنطق في تعيين رؤساء مجالس الجهات من الاحزاب المتصدرة الانتخابات ويمكن التعيين عن طريق ممثل للملك حتى تعطى للجهة مكانتها السياسية ويتحقق التوازن بين السلطتين الادارية والمنتخبة ، كأن يتم تعيين رئيس مجلس الجهة مثلا من طرف الوكيل العام للملك على مستوى كل جهة لتحقيق الحياد، وكذلك على مستوى مجالس العمالات ومجالس الجماعات الحضرية والقروية، وايضا لاحراج المسؤولين المنتخبين في القيام بالمهام المنوطة بهم.
ثالثا: ان الانتخابات القادمة و لتحديد من سيفوز بها يتحدد بكيفية التعاطي مع هذه المرحلة وربط امكانية ظهور رئيس حكومة جديد وقادر على حمل برنامج محمل بالالتزامات الجديدة والواعدة، خصوصا و أن جائحة كورونا خيبت آمال المواطنين والاحزاب على مستوى العالم وأبانت عن ضعف الرؤية و البرامج الواقعية والبعيدة عن تكريس الكذب العام وتنفيذ تعليمات المؤسسات المالية الدولية دون التوفر على خطط وبرامج وطنية للنهوض بالسياسات العمومية وطنيا وترابيا ودوليا. ولولا المبادرات الملكية وتدخل الدولة مجتمعة لمواجهة الجائحة لكان وقع الأزمة أعمق.
ان العمل السياسي سيكون شاقا وممارسة السلطة في هذه الظروف ستزداد تعقيدا، ويصعب على أي حزب تحمل المسؤولية وابراز مكانته بما يؤهله للوصول الى الحكومة في المرحلة الموالية، خصوصا ان النخب ضعيفة وهي نفسها المتواجدة في الساحة، وهي المطالبة بالتعاون لانقاذ البلاد من الأزمة الاجتماعية غير المسبوقة رغم مجهودات الدولة في محاولة التخفيف منها، وهو الشيء الذي يتطلب من الجميع تقديم تنازلات وتغيير العقليات دون شروط و القبول باقتسام الادوار بعيدا عن الالتزام بالمفهوم الضيق للسلطة، ومن الانسب العمل بالمرونة الكافية والتعاطي الجيد مع التحديات، وجعل العمل يطغى عليه طابع تدبير الطوارئ وتصريف امور الظرفية الاستثنائية والتوجه نحو مبادئ الاحزاب الاجتماعية لان الانتخابات ستغير رأي المواطنين في ظل وضعية التعددية الحزبية الفوضوية اذا لم تسارع بالدخول في تكتلات واسعة وقوية، اما المراهنة على شرعية المال و المقاولة في اقناع المواطنين بالمشاركة فسيعطي افلاسا كبيرا خصوصا في ظل استمرار الازمة .
رابعا : كفاءة النخب السياسية لأن المغرب اليوم يحتاج الى كفاءات قوية وقادرة على العمل بالتضامن و التكافل لمساعدة المواطنين و فق برامج تركز بدرجة كبيرة على أولوية الصحة والتعليم والتشغيل وتسريع تنزيل التغطية الاجتماعية، وهذا ما تفتقر اليه الاحزاب، بالاضافة الى ان المغرب يجب ان ينتقل الى مواجهة ردود الافعال القادمة من البيئة الخارجية والدولية وتخطي بسرعة التفكير التقليدي في ردود الافعال التي تفرزها البيئة الداخلية و في آليات الاستقرار الداخلي التي لم تعد سياسية بل تنموية، وتحولت من التنافس السياسي الى التضامن التنموي والتنمية التضامنية بعدما فرضت الجائحة على الدولة تغيير الاولويات لديها ومنها السياسات الاجتماعية التي يظهر نظام الحماية الاجتماعية فيها كمؤشر على التوجه نحو التنمية الاجتماعية والاقتصادي التضامني .
خامسا : معضلة الترحال السياسي كونه عملية انتقال الشخص من حزب إلى حزب آخر فيحدث فوضى غير اخلاقية من أجل الظفر بمكانة وبفرصة الدخول للبرلمان ،ويأتي هذا نتيجة لتنافس الأحزاب الكبرى حول الاستحقاقات بهدف ضمان الفوز بأكبر عدد من المقاعد.
والترحال السياسي ظاهرة مرتبطة بالاستقطاب الذي يركز على الفوز في الانتخابات كما ترتبط بتجار الانتخابات وحسب البعض فإن الترحال نابع من مشكل ثقافي وأخلاقي مرتبط بهشاشة قيم الالتزام الحزبي الاخلاقي و السياسي التي تؤطر العلاقة القائمة بين الأحزاب و المنخرطين فيها وتفشي قيم الارتباط المادي المصلحي الشخصي والانتهازي .
و علاقة بطبيعة الظرفية السياسية وتقلباتها في فضاء سياسي مازال يشتغل بآليات تقليدية كالزبونية والربيع السياسي، فإن الترحال السياسي يترجمه التخلي عن قناعات والتزامات تغيرت بسبب مواقف سياسية في مواجهة المنافسين او القيادة الحزبية، وبالتالي فالترحال هو تغيير كلي للقناعات واستبدال الفريق السياسي، كما يعتبر قفزة قد لا تسعف في الاستمرار و الاندماج مع فريق سياسي جديد. كما أنه بالترحال السياسي يتولد لدى المواطن انطباع و نظرة سلبية عن السياسيين غير الملتزمين أخلاقيا و الغير مستحقين لثقة الناخبين الذين ينتمون للأحزاب ولهم بطائق الانخراط فيها.
هذا وتتميز شخصية الرحالة السياسي بالانفصام حيث يتسم بتعدد الوان شخصيته السياسية الحزبية، فتارة يبرر الشخص ترحاله بكونه يمارس السياسة و تارة أخرى بتعارضه مع الحزب، وأحيانا يدعي أن الناخبين يصوتون عليه كشخص، و أحيانا يدعي أنه يمثل الناخبين، وأحيانا أخرى يدعي أنه يمثل الحزب.
وهناك أحزاب تنتعش من ظاهرة الترحال السياسي من خلال استقطاب اطر لها للظفر بمقعد برلماني زائد ، لأن اساس تواجد مثل هذه الأحزاب واستمرارها تقابلها بالعروض المقدمة لهم فيفضلون المكانة المريحة في غياب الاعتراف بالمجهود داخل أحزاب المغادر منها ، وهيمنة عناصر و استحواذها على توجهات وقرارات الحزب وتمثيلياته فيه، كل هذه الامور تعطي ظاهرة الترحال السياسي اللاأخلاقي.
ويرتبط الترحال السياسي أيضا بمفهوم الممارسة السياسية حيث أن المعارضة و تغيير مواقف اي عضو داخل حزب معين ينطلق من قناعات شخصية تتمثل في حرية الرأي و التعبير وتقييم الصعوبات التي تعترض منافع الرحالة. و أيضا ضعف المراقبة الداخلية للأحزاب سواء كان الحزب ممثلا في الحكومة أو خارجها حيث ان الأحزاب تتناوب على دور المعارضة كما تتناوب على المشاركة في ممارسة السلطة. وعليه فإن الترحال يبرر سياسيا بحرية التعبير و القناعة في اتخاذ المواقف. كما أن الرحالة قد يتلقى وعودا سياسية من حزب آخر كمنحه وكيل اللائحة أو حقيبة وزارية او منصب حكومي ، كما يمكن أن يحدث الترحال بمناسبة انعقاد المؤتمرات الحزبية المفضية الى عدم نجاح عضو لمهمة حزبية كان يراهن عليها. كما يمكن لأي خلاف حول التسيير المالي و الإداري للحزب أن يعطي انشقاقا او خلافا يؤدي إلى مغادرة البعض خصوصا وأن القانون التنظيمي للأحزاب لا يشدد على منع ظاهرة الترحال وعليه تبقى ظاهرة الترحال السياسي ظاهرة سياسية لا اخلاقية غير مبررة لكنها تخضع للتأويل .
ان الاستحقاقات القادمة ستكون محطة مختلفة عن سابقتها، ومحكا حقيقيا لمدى الاستمرار او القطيعة مع عيوب الممارسة الديموقراطية كما ستكون مقياسا لدرجة التأثير الاجتماعي للدولة والاحزاب معا في توجهات المطالب الاجتماعية والاقتصادية.