عندما تعلن مصر أن استيراد الغاز من اسرائيل لن يؤثر على موقفها من القضية الفلسطينية، فإنها تحاول الفصل بين الاقتصاد والسياسة في ملف يعد من اكثر الملفات حساسية في المنطقة. لكن قراءة متأنية للواقع تكشف أن الاقتصاد ليس مجرد قطاع منفصل، بل هو المحرك الخفي لكثير من القرارات السياسية، خاصة في ظل الضغوط المالية والاحتياجات الطاقية المتزايدة.
منذ سنوات، دخلت القاهرة في اتفاقيات لاستيراد الغاز من الحقول الاسرائيلية في شرق المتوسط، في خطوة بررتها بضرورات اقتصادية واستراتيجية مرتبطة بتحويل مصر إلى مركز إقليمي للطاقة. غير أن هذه الاتفاقيات تطرح تساؤلات عميقة حول مدى قدرة أي دولة على الحفاظ على خطاب سياسي ثابت بينما ترتبط بعقود طويلة الأمد مع طرف تحتله الخلافات التاريخية والسياسية.
الاقتصاد بطبيعته يفرض مصالح مشتركة، ومع مرور الوقت تصبح هذه المصالح ذات وزن مؤثر على المواقف الرسمية. فالعقود المليارية، وشبكات البنية التحتية، والاستثمارات المتبادلة، كلها عوامل تجعل من الصعب على أي حكومة اتخاذ مواقف سياسية حادة تتعارض مع مصالحها الاقتصادية الجديدة. وهذا ما يجعل الفصل بين الاقتصاد والسياسة أمرا أقرب إلى الوهم منه إلى الواقع.
مصر، مثل كثير من الدول، تواجه معضلة الموازنة بين مبادئها المعلنة وحاجتها إلى تأمين موارد الطاقة وتنشيط اقتصادها. لكن الإشكالية تكمن في أن هذه الموازنة قد تتحول تدريجيا إلى انحياز غير معلن، حيث يصبح الخطاب السياسي محكوما بحدود ما تسمح به المصالح الاقتصادية. ومع توسع العلاقات التجارية، يزداد النفوذ الاقتصادي للطرف الآخر، مما ينعكس على طبيعة المواقف في المحافل الدولية أو في إدارة الأزمات.
القضية الفلسطينية التي كانت تاريخيا ملفا مركزيا في السياسة المصرية، قد تجد نفسها أمام تحدي جديد، حيث يظل الدعم السياسي قائما في الخطاب، لكنه مقيد باعتبارات اقتصادية لا يمكن تجاوزها بسهولة. وهنا يبرز السؤال: هل يمكن لاقتصاد مرتبط بعقود طاقة استراتيجية مع اسرائيل أن يتخذ مواقف جذرية في حال تصاعدت المواجهة؟
إن التجارب التاريخية تثبت أن المصالح الاقتصادية كانت دائما عاملا حاسما في صياغة القرارات السياسية، وأن الشعارات والمواقف المبدئية كثيرا ما تتراجع أمام ضغوط الأسواق والعقود والاستثمارات. وفي حالة مصر، فإن استمرار استيراد الغاز الاسرائيلي، مهما كانت المبررات، سيظل ورقة ضغط يمكن أن تستخدم في أي وقت للتأثير على مواقفها، حتى وإن أنكرت ذلك رسميا.
في النهاية، لا يمكن تجاهل أن الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة، وأن أي محاولة للفصل بينهما في قضايا استراتيجية كالقضية الفلسطينية ستظل محاولة شكلية تخفي وراءها شبكة معقدة من المصالح والتأثيرات المتبادلة. والنتيجة أن الشعارات قد تبقى، لكن القرار الحقيقي سيظل مرهونا بحسابات الأرباح والخسائر.

