
من ثمار البحث التاريخي حول ما هو محلي ومن نصوص خزانة جهة فاس مكناس التاريخية، وعياً بكون ما ينبغي من تحول واضافة في الكتابة التاريخية المغربية رهين أيضاً بملفات وقضايا القرب. واستثماراً لِما بات متوفراً من مستندات وأرشيف وطني وأجنبي، ولبلوغ تكامل بين ذخيرة دراسات توجهت بعنايتها لفترة الحماية الفرنسية على البلاد. وفي اطار مقاربات يحضرها تفاعل الحدث التاريخي مع خصوصية المحلي، من أجل وعاء معرفة تاريخية من شأنها دعم رهان تركيب تاريخي ببلادنا. وتثمينا لِما قدمته المدرسة المنوغرافية المغربية من أعمال علمية جمعت بين تجديد وتغيير وتراكم واضافات على امتداد حوالي أربعة عقود من الزمن الجامعي. وانفتاحاً على ملفات وقضايا تاريخية وأمكنة يرى باحثون مؤرخون مغاربة أنها جديرة بالتفات وتنقيب في اطار محلي، وتوسيعاً لخزانة الجهة ومن خلالها خزانة تازة التاريخية من خلال تراكمات نصوص أكاديمية حول المنطقة، حيث الممر الشهير الذي كان لقرون من الزمن جسراً بين شرق البلاد وغربها وبين فاس وتلمسان.
في اطار كل هذا وذاك من العمل المنوغرافي والبحث التاريخي بالجهة والانفتاح على القرب، جاء كتاب”أعالي ايناون في المشروع الاستعماري الفرنسي بالمغرب 1914- 1926″، والذي صدر ضمن منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير عن مطبعة ابي رقراق بالرباط لصاحبه الأستاذ عبد السلام انويكًة. إصدار في تاريخ المغرب المعاصر بأزيد من أربعمائة صفحة من قطع متوسط، جاء كرونولوجياً بحدثين فاصلين في تاريخ مغرب مطلع القرن الماضي، حيث تطورات فترة دقيقة تقاسمتها وقائع إحكام سيطرة القوات الفرنسية على تازة ممراً ومدينة معا، وحيث وقائع وصدى وتفاعل ونهاية حرب الريف في علاقتها بأعالي حوض ايناون. والكتاب هو بواجهة تتوسطها خريطة عن الأرشيف الفرنسي، تهم جزءً من مجال هذه الأعالي ذات الطبيعة الجبلية الفاصلة بين شرق البلاد وغربها حيث جزءً من جبال الأطلس المتوسط وجزء من مقدمة جبال الريف.
كتاب تأسس على بيبليوغرافيا هامة ومتنوعة وسند وثائقي عن الأرشيف الفرنسي بالمغرب، وتوزع على محاور أربعة تبسط لِما هو فزيائي وبشري يخص المنطقة، ويعرض لمحطات وأحداث وتطورات طبعت المغرب عامة خلال هذه الفترة وأعالي ايناون خاصة. مع تركيز على موقع هذا المجال الاستراتيجي في خريطة انشغالات الأطماع الاستعمارية الفرنسية انطلاقاً من الجزائر، وعلى بعض سبل إعداد المنطقة لتحقيق التوغل في المغرب استكمالا لمشروع استعماري فرنسي في شمال افريقي تابع، فضلاً عن ابرازه لِما كانت عليه المنطقة من ردود فعل وطنية ومقاومة مسلحة، على مستوى مجال استراتيجي تتقاسمه قبائل غياتة والبرانس والتسول.
في تصدير أول أورد الدكتور سمير بوزويتة الأستاذ الباحث في التاريخ المعاصر وعميد كلية الآداب والعلوم الانسانية سايس فاس، أنَّ الكِتَاب يجعلنا نطرح سؤال الهدف من قراءة ماضينا، وسؤال القراءة المقرونةٌ باستخلاص العِبَر فهماً للحاضِر واستشرافاً للمستقبل بما يتطلب ذلك من مسؤولية وتقديرٍ رصينٍ ودقيقٍ. في سياق وتوجهٍ التاريخُ فيه ليس مجردَ سردٍ ولا أرشفةٍ وتدوين وتقييدٍ، بل أداةً للعبرة من أجل غدٍ أفضلَ تفعيلاً للماضي في الحاضر. مضيفاً أن الباحث في تاريخ المغرب التزامني المعاصَر يجد نفسه مُثقلاً بأسئلةٍ من قبيل، كيف نجعل التاريخ حافزا مُلهِماُ باعثا وكيف يمكن قراءة فترة الاستعمار والمقاومة كفترة تاريخية ممتلئة بتاريخ جريح، لنجعل منها مصدرَ إلهامٍ وليس مطيةَ الاستبداد بالتاريخ وفرضَ قراءةٍ أُحادية له. متسائلاً أي حد يمكن قراءة تاريخ المقاومة وفق مقاربةٍ ورؤية هادئة- إدراك الاستعمار في حقل فكر متخلصٍ من الاستعمار- والحالة أننا نحيى مخلفات فترة الاستعمار. مضيفاً أنه الى أي حد يمكن نِسيان أسئلة محرجة مثل: كم عدد ضحايا الغزو الاستعماري من قتلى وجرحى ومعطوبين ومرضى نفسيين ومعوِزين ومهجرين، وماذا عما صُودِرَ من وثائق وتراث وما حجم ما تسبَّب فيه الاستعمار من تأخر ونكوص تاريخي وتشويهٍ وتضييع للحدود، كذا ماذا طور المستعمر وهل كما دخل خرج أم زيَّف وغيَّر وحرَّف، وإلى أي حَدٍّ يمكن للمؤرخين قراءة تاريخ المقاومة قراءة هادئة بعيداً عن التفاعل.
أسئلة وغيرها- يقول الدكتور سمير بوزويتة- اجتهد كتاب“أعالي ايناون في المشروع الاستعماري الفرنسي بالمغرب على عهد الحماية” في الاجابة عنها، حيث تمكن من وضعِ القارئِ في قلب هذه الإشكالات. مضيفاً أن ما يستبطنه المؤلَّف دفع لإبراز كون الجغرافيا هي الذاتُ ذَاتُها بهذه الأعالي حيث قبائل البرانس واتسول وغياتة. والتي باسمها تنطق الجغرافيا كقبائلَ مغربيةٍ مجبولةٍ على حب الوطن. وأنَّ الكتابُ هو قيمةً مضافة في حقل تاريخ المقاومة المغربية عموماً ومقاومةِ قبائل أعالي ايناون تحديداً، ينضاف لذاك قوةُ أسلوبٍه ودقةُ تعبيرٍه وعمقُ منهجٍه ورؤيته وتصورٍه مما أضفى عليه طابع التميز والجِدَّة.
وفي تصدير ثان للدكتور جمال حيمر الأستاذ الباحث في تاريخ المغرب المعاصر بكلية الآداب والعلوم الانسانية بمكناس، ورد أن كتاب” أعالي ايناون في المشروع الاستعماري الفرنسي بالمغرب” يدخل ضمن التاريخ المحلي الجامعي، التوجه الاستوغرافي الذي تعود بداياته لمنتصف سبعينيات القرن الماضي تأسيساً على قناعة أهمية التاريخ المحلي الجزئي، كبوابة ناجعة للإحاطة والتبصر بمختلف قضايا تاريخ المغرب. وإقراراً بالتفاوت الملحوظ بين مستويات الأبحاث المنتمية لهذا التيار والحقل التاريخي، من حيث التصور والمقاربة والتوثيق والتحليل والربط بين الخاص والعام. فمن المؤكد أن هذه القناعة كانت بمساهمة هامة من موقعها في تحقيق تراكم نسبي كمّاً وكيفاً في حركة التأليف التاريخي الجامعي. ما تجلى في استغلالها المكثف لإمكانات مصدرية متعددة الأصول، وتناولها لوقائع تاريخية مغربية من منطلقات نابعة من واقعها من جهة، وفي قدرتها على الدحض العلمي لأطروحات الأستغرافيا الكولونيالية التي أولت ظواهر وتنظيمات المجتمع المغربي تأويلا يتماشى والأهداف الاستعمارية من جهة أخرى.
ومن هنا- يضيف الدكتور جمال حيمر- تأتي أهمية وقيمة هذا الكتاب، الذي يحق اعتباره لبنة من لبِنَاتِ ورش تاريخ البادية المغربية. إذ أبان صاحبه من خلال ما أنجزه حول تازة وأعاليها عن طموح علمي هادف وسعي حثيث، إسهاماً منه في رد الاعتبار لتاريخ الهامش وإبراز هوية الكيانات المحلية وصيانة ذاكرتها ضمن رباط وطني جامع، ولا شك أن ما ورد في الكتاب منهجاً وإشكالا يضفي عليه كامل المشروعية العلمية والتاريخية. وأنه- يقول الدكتور جمال حيمر- إذا كانت الجِدَّة والأصالة أهم ما اتسم به هذا العمل، فإن هاتين الميزتين تجلتا فيما أسفر عنه من قيمة مضافة على مستويين إثنين. إسهامه في إغناء حقل التاريخ العسكري للمغرب على عهد الحماية من جهة، رصده الرصين وتحليله الدقيق لكيانات ومكونات أعالي ايناون الطبيعية والبشرية من جهة ثانية، وهو ما يعد بحق إضافة نوعية في حقل تاريخ البوادي بالمغرب. ولعل ما جاء في الكتاب من دقة علمية تخص ما تم الكشف عنه حول مجال تازة الذي شكل هدفاً رئيسياً حاسماً في استراتيجية التوغل الفرنسي بالمغرب، وما بُذل فيه من جهدٍ كبيرٍ لتوسيع وتنويع وحُسن توظيف المضَانِّ المعتمَدة، يجعله عملاً علمياً متميزاً بقيمة مضافة هامة لفائدة المكتبة التاريخية المغربية.
ويخلص صاحب الكتاب الى أن تاريخ تازة خلال زمن الحماية الأجنبية على البلاد، هو بحاجة لمزيد من البحث والدراسة والتحليل والتنقيب من أجل معرفة تاريخية أكثر أهمية، من شأنها تجاوز قراءات سسيولوجية استعمارية طبعتها أحكام تفتقر لِما ينبغي من دقة وموضوعية. وأن الكتاب كعمل مقارن بين احتلال أجنبي ومقاومة وطنية في زمن ومكان محدد، يبين ما لتاريخ بلادنا العسكري من أهمية وما يحتويه من ملمح تفاعل بقراءة وقائعه، يمكن بناء جدلٍ بين ما كان عليه وضع المغرب الداخلي في علاقته بجوار جغرافي وسياسي، وبين ما كان عليه شأنه الخارجي خلال هذه الفترة من زمنه الحرج، حيث نهاية القرن التاسع عشر التاريخي ومطلع القرن الماضي مع عقد الحماية.
صفرو بريس
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث