عبد السلام انويكًة
ايقاع كتابة وتأليف ونشر ودينامية ابداع خاص، ذلك الذي طبع تسعينات تازة قبل حوالي ربع قرن. لِما كانت عليه المدينة من شغف ثقافة وفسيفساء نخبة وصورة مبدع جمعت بين أهل دار ومن حل بها من ديار، لا شك أنهما كانا بأثر فيما حصل من اطار جامع وتنشيط وترافع رافع في كل الأحوال. ذلك أن صدور مجرد ديوان شعر مَا خلال هذه الفترة، كان كافيا لرفع لسان حاله لأعلى عليين كما يقال هنا وهناك بين جنون وقبيلة منتمين. وأما أن يرى النور مؤلف مَا في عالم انسانيات ضمن ما هو تراث ومجال وزمن ونظر وتوثيق وتحقيق..، فالأمر حقا كان يحبس أنفاس متتبع مهتمٍ مع ما هناك من وقع صدى تثمينا وحديثا واقتناء وسؤالا، عبر ما كان يؤثث المدينة من تقاليد احتفاء وحضن وقراءات كانت بأثر رافع لموجة تجارب، هذا قبل كساء فتور معبر اللهم ما يسجل من استثناء محدود منذ حوالي عقدين من الزمن.
من زخم هذا الايقاع وهذه الطفرة التي طبعت تازة لفترة يمكن نعتها بالذهبية في علاقة بجملة تجليات، وعن موجة ابداعات تسعينات تازة، ارتأينا اطلالة على سفرية كتابة تخص إصداراً موسوما ب”سيناريو املشيل ويطو”، لمؤلفه محمد الباهي العلوي، الذي نحفظ له بكل عزة ومحبة وتقدير ما كان عليه على امتداد عقود، من سؤال حول هذا وذاك من تراث وأعلام عمارة مدينة تاريخية، فضلا عن تحريك وعي نشر وتناول، بشجاعة أدبية مثيرة لجدل انعدمت في كثير ممن كان محسوبا على إجازة. من خلال ما انفتح عليه حفظه الله من قضايا وملاحظات ونبش بذكاء إثارة، لا شك أنها كانت سر ما اغتنت به خزانة المدينة لا حقا، ومن خلال أيضا ما حصل من تنوير وتعريف ومن ثمة نصوص بطبيعة تاريخية تراثية. وكان هذا الرجل الفاضل النشيط الغيور على تازة وتراثها ووقعها في زمن بلاد وعباد، قد مكنني بتوقيعه كعادته كلما كان بصدد جديد وسؤال، بنسخة من مؤلفه هذا الذي لازلت احتفظ به منذ أن كان مشرفا على خزانة القراءة بتازة العليا، تلك التي كان مقرها بدار المشور حيث المدرسة المرينية الشامخة، ولعلها بذاكرة خاصة لِما شهدته خلال تسعينات القرن الماضي من مساحة أنشطة فكرية رصينة ومواعيد جدل ولقاءات مع رجال فكر وإعلام بارزين.
“املشيل ويطو” الذي خصصنا له تغطية خاصة بإحدى الجرائد الوطنية في حينه آنذاك، إثر حفل قراءة وتوقيع أطرناه رفقة مهتمين ببهو المعهد الموسيقي بالمدينة قبل ربع قرن، عندما كانت مرافق المدينة العمومية عموما بوعي وانصات لِما هو ثقافة وجديد ثقافة وفكر وتأليف بحاجة لحضن رافع. “املشيل ويطو” هذا الوعاء الذي بتراث مغربي دفين أو هذا “السيناريو” كما شاءه تقدير مؤلفه، هو بأزيد من مائة صفحة من قطع متوسط وبرسومات معبرة في واجهته من ابداع الفنان التشكيلي محمد خلوف، تعود فكرة تيمته لمطلع تسعينات القرن الماضي قبل أن يصدر عن مطبعة فضالة بالمحمدية ضمن طبعة أولى عام ألف وتسعمائة وستة وتسعين. فكان بما كان من صدى طبع مشهد طفرة كتابة وابداع وكاتب ومبدع كما سبقت الاشارة، يسجل عنها ولها ما كانت عليه من تميز.
في علاقة بهذا العمل الابداعي التراثي، من المفيد الاشارة الى أن ذاكرة الشعوب ليست سوى مزيج واقع وخيال وحقيقة واسطورة، بل كثيرا ما يغلب الثاني على الأول فيحصل نمو هذا المزيج مع زمن ويزدهر بفعل عمل مبدعين وكتاب وفنانين في شتى فروع التعبير الانساني، ليتشكل من كل هذا وذاك وعاء ثقافة، ليست في نهاية مطاف سوى ما يكتنز في ذاكرة شعوب من معارف انسانية وحضارة يتولد عنها ما يتولد من طاقة ابداع خلاقة. اشارات وغيرها استهل بها الوطني والاعلامي والدبلوماسي المتميز قاسم الزهيري رحمه الله، تقديما لهذا العمل مستحضرا ما تحتويه الانسانية من تراث رمزي كما بالنسبة مثلاً لملحمتا الالياذة والأوديسا لهوميروس، وسيرة سيف ابن ذي يزن عن التراث العربي، التي استلهمت تيمتها من عبق ما هو خالد متفاعل عبر الزمن من إرث صور خير وشر وحب وصراع وبقاء وموت وبداية ونهاية وقوة وضعف. وما أكثر قصص حب وفراق وبعد ووشاية وحسدٍ في الجمعي من أدب وتراث عربي، من قبيل قصة الشاعر جميل الذي أحب بثينة فكان ما كان من غضب قوم ومن قبيل قصة الشاعر قيس وليلى وما حصل من فراق. نفس الشيء ما نجده في تيهات أدب غربي ومنها قصة روميو وجولييت لشكسبير، كذا قصة بول وفرجيني التي ترجمها لطفي المنفلوطي عن بيرناردان الفرنسي.
نفسها الشاعر التي نجدها في متن “املشيل ويطو” للباهي العلوي، وقد اختار لها مرتفعات الأطلس حيث قبيلة حديدو هناك وحيث بحيرة أزلي وتزليت، وكان أب يطو قد رفض تزويج ابنته ومن ثمة ما حصل من هروب لطبيعة وغربة وابتعاد عن قيود حياة. هكذا هي رحلة رواية سيناريو “املشيل ويطو” الذي ليس بوحدة موضوع وزمن ومكان، رغبة من مؤلفه في طرق قضيتين معا، من جهة قصة حب املشيل ويطو ومن جهة ثانية ما ارتبط بحروب صليبية اختار لهما مواقع ثلاثة، هي مجال قبيلة غياتة ومغارتها ثم فاس حيث دار امارة وقصر يعقوب المنصور الموحدي، وأخيرا مدينة القدس التي استعادها صلاح الدين الأيوبي.
هكذا انتقل صاحب”املشيل ويطو” من مكان لآخر ومن زمن لآخر، لبلوغ ما رآه جاذبية تيمة في علاقة بفترة مشرقة من زمن الاسلام والمسلمين، تلك التي تم فيها استعادة مدينة مقدسة من قِبل بطل حطين. وكان هذا الأخير قد بعث قبل أكثر من ألف سنة من الآن، بوفد تحت رئاسة قائد جيشه عبد الرحمن بن منقذ بغرض طلب مساعدة عسكرية من يعقوب المنصور الموحدي لافتكاك مدن عكا وصور وطرابلس ببلاد الشام. وغير خاف ما هناك بين متخصصين مؤرخين بين أهل مشرق ومغرب من خلاف تاريخي حول درجة تعاون وتلبية طلب، لأسباب ورد عنها ما ورد في نصوص هنا وهناك. ليبقى المهم والأهم جهد مؤلف جمع شتات موضوع بقدر معبر من تشويق واثارة وابراز لِما في تراث البلاد الرمزي من مساحات تأمل، من شأنها اغناء صورة وفرجة وسؤال وتربية ناشئة وهوية ووحدة وانتماء ووطن. وعيا من المؤلف بما هناك من قصص تراث متداولة بقيمة رمزية عالية هنا وهناك وبما ينبغي من التفات اليها من خلال جمعها كمشاعر انسانية.
ولعل من تميز صاحب”املشيل ويطو” تجاه تراث شعبي وقصة جامعة بين أمكنة وأزمنة وفاعلين هنا وهناك بمغرب ومشرق خلال العصر الوسيط، وعيه بكونه عملا ابداعيا فني نتح من عبق تاريخ من أجل ما هو درامي سينمائي لا غير، فكان ما كان عليه من غزل تاريخ وما اعتبره وقائع تاريخية ومن غزل مواقع من قبيل مغارة فريواطو وموسم خطوبة بالدراما. من خلال عمل سيناريو توزع على رموز لقطات مشاهد، فضلا عن حوار جمع بين موسيقى وصياحات واصوات دالة وتعبير ايقاعي فني، كذا خرير مياه وهيبة جبل وصراخ طرائد وحوافر دواب ووقع ضربات وجدل سوق حرفيين ونفخ كير. الى جانب ما طبع حوار السيناريو من تمثلات لقاء وشيوخ قبائل ودار ملك وسلطان، ومن التفات لأثاث سيوف ولباس وعتاد قتال، ومن حديث أيضا عن غارات وبيت مقدس وقادة ميدان بمشرق ومغرب، ومن وفد ورسائل ومطلب نجدة واستقبال وحزم وهدية ومصاحف وبر وبحر ورجال حكمة وطب وفلك وسحر، فضلا أيضا من حديث عن مرض واصابة كبد وصوت نحل وشهد وعسل، ومن ثمة مغارة وعلاج واعتراف بجميل انقاذ وزغاريد حب ووقع خطوبة، هكذا بلغ حوار سيناريو املشيل ويطو الى رؤية يطو واقفة مع غريب قرب كهف في خلوة بجبل، وهكذا قصة ازالة عشق ونهاية وجزاء غريب ارتآى أنه أحق بخطوبة بعد شفاء.
كله أثاث حوار طيع هذا العمل، فضلا عما استحضر من نزال ومقاومة وقيل وقال وتقاليد بيئة وسلف، كذا مشهد أغلال وأكبال ورمي لعاشق في جوف كهف وتردد صياح بجبل وبين وديان، قبل بداية سفر في احشاء باطن ارض رفقة اشباح وقطرات ماء بحثا عن ضوء ومهب ريح وحديث عن موت وبقاء اسم عالق بكهف، ذلك الذي انتهى اليه سياق قصةٍ ب”افري يطو”، هذا قبل فرج ونصر ونجاة بعد ليل مظلم وقبل حديث عن”املشيل” ابن كبير قبيلة آيت حديدو حيث العشيرة وديار أهل، وقبل حديث عن عودة رفقة امرأة ما هي في السيناريو سوى ابنة شيخ قبيلة غياتة، تلك التي ستكون سر تقليد وحفل املشيل مرة في السنة، لمن أراد زواجا وكان بغضب ورفض من أهل وآباء بسبب ما قد يكون من حساسية مادة وأسرة وعشيرة.
بكل هذا وذاك عبر فرجة قصة وحبك من تراث بلاد وعباد، ينتهي مؤلف”املشيل ويطو” لِما اعتبره سر موسم خطوبة شهير بقبيلة آيت حديدو وسر احتفاء به كل سنة بعد موسم حصاد، مضيفا أن من شدة بكاء “يطو” العروس ملأت منخفضا تحول اثر ذلك لبحيرة هي التي تعرف ب”تسليت” أي الخطيبة. ونفس الشيء هو ما حصل من بكاء لـ”املشيل” العريس فرحا بنجاته حتى ملأ منخفضا آخر مكونا ضاية تعرف ب”اسلي” أي الخطيب.
يبقى بقدر ما كان عليه “سيناريو املشيل ويطو” هذا المؤلف لأخينا محمد الباهي العلوي حفظه الله، أحد علامات تازة التي تحفظ له ما كان عليه من اثارة وشغف وسؤال ونبش في تاريخ وتراث منطقة، بشجاعة أدبية افتقدت في غيره من محسوبين على معرفة وبحث ودرس تاريخي. بقدر ما أثاره من جدل من جهة وحلم في علاقة بمؤسسات عربية كما بالنسبة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم من حعة ثانية، فضلا عن تأمل من رجال فكر وثقافة وتاريخ من قبيل العلامة عبد الهادي التازي رحمه الله، بقدر ما يدخل هذا العمل الذي استهدف استثمار معطيات تاريخية متداولة وجسور علاقة مشرق بمغرب، ضمن رحلة ابداع صوب منتجع املشيل عبر مغارة تازة الشهيرة “فريواطو”، وضمن طفرة ابداع طبعت حقا تسعينات تازة قبل ربع قرن.
عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث