أقلام حرةالعالمالمغرب

حين يتهم البؤس السياسي المعارضة: قراءة ماركسية في خطاب لحسن السعدي

بقلم: يوسف المسكين

في مشهد سياسي يعج بالمفارقات، خرج البرلماني لحسن السعدي، عضو حزب التجمع الوطني للأحرار، باتهام مباشر للمعارضة بالبؤس السياسي، واصفا إياها بالعاجزة عن مواكبة تطورات المغرب الحديث. لكن هذا الخطاب، على ما يبدو، لا يخلو من نزعة إنكارية عميقة تعيد إلى الأذهان منطق كارل ماركس في كتابه الشهير “بؤس الفلسفة”، الذي خصصه لنقد التناقض الصارخ بين الخطاب المثالي والممارسة الواقعية.

فكما اتهم ماركس برودون بتقديم فلسفة تجمل البؤس بدلا من مواجهته، يمكننا أن نقرأ خطاب السعدي كمحاولة لتجميل الأداء الحكومي عبر إلصاق تهمة الفشل بالمعارضة. غير أن السؤال الأهم ليس: هل المعارضة تمارس البؤس السياسي؟ بل: من ينتج البؤس فعليا؟

من “بؤس الفلسفة” إلى “بؤس الخطاب”

ماركس لم يكتب كتابه للترف النظري، بل كان يقصد تفكيك خطاب يروج للعدالة بينما يبرر الاستغلال. في المقابل، خطاب لحسن السعدي يتبنى لغة هجومية، يضع فيها الحكومة في موقع الإنجاز، ويسقط على المعارضة تهمة الفشل، دون أن يتورع عن استعمال مفردات تهكمية تظهر حجم الاستعلاء الخطابي.

لكن التناقض صارخ حين يقارن هذا الخطاب بنتائج السياسة العمومية التي أنتجتها الحكومة التي يمثلها السعدي:

فمؤشرات الأسعار تعرف ارتفاعا غير مسبوق.

و واقع الصحة في الحضيض

والقدرة الشرائية تأكلت على نحو متسارع.

والهشاشة استفحلت في الأحياء الفقيرة والمتوسطة.

بينما ظلت الحكومة، رغم وعودها، عاجزة عن بلورة حلول هيكلية حقيقية.

فمن يمارس البؤس السياسي إذن؟ المعارضة التي لا تملك القرار التنفيذي؟ أم الأغلبية التي تقود الحكومة بكل مفاتيحها وأغلبيتها المريحة؟

حكومة أوليكارشية وتبرير التوحش الرأسمالي

الأخطر من مجرد تحميل المعارضة مسؤولية البؤس، هو أن هذه الحكومة تجسد في عمقها ما يمكن وصفه بـ“حكومة أوليكارشية”: تحالف نخبوي رأسمالي، يجمع بين سلطة المال والقرار، ويعيد إنتاج منظومة الامتيازات عبر توافقات شكلية بلا مضمون اجتماعي.

وهنا يلتقي خطاب الأغلبية مع ما دافع عنه برودون في “فلسفة البؤس” حين حاول تبرير الرأسمالية على أنها نظام يمكن إصلاحه من الداخل، عبر توفيقية سطحية بين الاستغلال والعدالة، وبين السوق والفضيلة.
ماركس رد عليه بوضوح، قائلا إن هذا النوع من الخطاب لا يغير شيئا، بل يبرر التوحش ويسوقه في ثوب الإصلاح.

حكومة اليوم، إذ تجمل الفقر بالرقمنة، والهشاشة بالمبادرات، والاحتقان بالبلاغات، لا تفعل سوى إعادة إنتاج بؤس الفلسفة البرودونية في نسخة مغربية حديثة. إنها حكومة تسوق خطاب “الإنصاف والعدالة”، لكنها في الممارسة تكرس المزيد من التفاوتات وتدافع عن مصالح الأقلية.

المعارضة بين التبخيس ونزع الوطنية

ضمن هذا الخطاب الهجومي، حاول لحسن السعدي الذهاب أبعد من مجرد تبخيس المعارضة، إلى محاولة نزع الوطنية عنها، في خطاب يلمح إلى أنها لا تواكب توجيهات الدولة ولا تنخرط في روح المرحلة.
لكن هذه المحاولة تسقط أخلاقيا وواقعيا أمام البرامج السياسية الواضحة التي قدمتها المعارضة، والتي تنسجم في عمقها مع الرؤية الملكية الشاملة للإصلاح، وتعبر عن التزام صريح بثوابت الأمة، واستعداد مسؤول للانخراط في البناء الوطني، دون مزايدة أو ارتهان.

السعدي، في هذا السياق، يتحدث كما تحدث برودون، وكأنه يملك مفاتيح “الحقيقة” ويوزع صكوك الوطنية كما يوزع رجال الدين صكوك الغفران.
لكن الفرق أن فهمه للوطنية لا يتجاوز مصطلحات يحفظها قبل الخطاب، يرددها بشغف، لكنه يفرغها من محتواها، حين يستخدمها كعصا لتخوين الآخر، لا كجسر لبناء توافق وطني جاد.

قلب المعادلة: المعارضة كقربان للفشل

ما يميز منطق ماركس هو كشفه للطريقة التي تستخدم فيها الفلسفة لتبرير الواقع بدلا من تغييره. بالقياس ذاته، يستخدم خطاب “البؤس السياسي للمعارضة” اليوم كألية لإخفاء عجز الحكومة، لا لتقييم واقع المعارضة. إنه ليس نقدا بناء، بل تكتيك دفاعي يحول الفشل إلى هجوم، والعجز إلى تفوق وهمي.

يمكن فهم هذا الخطاب ضمن استراتيجية تواصلية لا تهدف إلى فتح نقاش عمومي حول السياسات العمومية، بل إلى تحوير النقاش وإلهاء الرأي العام في معارك جانبية.

في البدء كانت المسؤولية

ما أحوجنا اليوم إلى ممارسة سياسية نزيهة تعترف بالاختلالات بدل إنكارها. فما يعيشه المغرب من توتر اجتماعي وموجات غضب واحتقان شعبي لا يمكن الرد عليه بخطاب هجومي ضد المعارضة، بل بتقييم دقيق للسياسات العمومية، ومراجعة للخيارات الاقتصادية، وفتح نقاش وطني جاد حول النماذج التنموية التي تكرس الفوارق بدل تقليصها.

أما الخطابات التي تتهم الآخرين بالبؤس، بينما تتجاهل سياسة البؤس الممارسة من داخل أجهزة الحكومة، فلا تختلف كثيرا عن “فلسفة البؤس” التي هاجمها ماركس في القرن التاسع عشر: إنها فلسفة تبرير وإخفاء، لا فلسفة كشف وتحرير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى