Site icon جريدة صفرو بريس

حين تتحول الديموغرافيا إلى سياسة عمومية: مدينة روسية تراهن على الإعفاء السكني لمواجهة أزمة المواليد

في خطوة لافتة تعكس عمق التحولات الديموغرافية التي تعرفها روسيا، أطلقت إحدى المدن الروسية برنامجاً حكومياً غير مسبوق يربط بين تشجيع الإنجاب والاستقرار السكني، عبر تخفيض أقساط المنازل بنسبة 10 في المائة مع كل مولود جديد، وصولاً إلى إعفاء كامل من الأقساط في حال إنجاب الأسرة أربعة أطفال. مبادرة تبدو للوهلة الأولى اجتماعية الطابع، لكنها في العمق تعبير واضح عن قلق دولة بأكملها من تراجع معدلات الخصوبة وشيخوخة المجتمع.

هذا البرنامج لا ينطلق من فراغ، فروسيا، على غرار عدد من الدول الصناعية، تعيش منذ سنوات أزمة ديموغرافية صامتة، تتجلى في انخفاض مستمر في عدد المواليد مقابل ارتفاع متوسط العمر. ومع مرور الوقت، بدأت هذه المعادلة تهدد التوازن الاقتصادي والاجتماعي، خصوصاً ما يتعلق بسوق الشغل، أنظمة التقاعد، والقدرة على تجديد النخب واليد العاملة. لذلك، باتت السياسات السكانية جزءاً من الأمن القومي، لا مجرد خيار اجتماعي ظرفي.

اللافت في هذه التجربة هو انتقال الدولة من منطق الخطاب التحفيزي العام إلى منطق الحوافز الملموسة. فبدل الاكتفاء بمنح مالية محدودة أو خطابات أخلاقية حول “أهمية الأسرة”، اختارت السلطات المحلية معالجة أحد أكبر معيقات الإنجاب: السكن. فامتلاك منزل أو تسديد أقساطه يشكل عبئاً ثقيلاً على الأسر الشابة، وغالباً ما يدفعها إلى تأجيل الإنجاب أو الاكتفاء بطفل واحد. ومن هنا، يصبح ربط الإنجاب بتخفيف العبء السكني محاولة ذكية لإعادة ترتيب أولويات الأسرة.

غير أن هذا الخيار، رغم وجاهته، يفتح نقاشاً أوسع حول حدود الحلول الاقتصادية في معالجة أزمة بنيوية. فقرار الإنجاب لا تحكمه فقط الحسابات المادية، بل تتداخل فيه اعتبارات ثقافية ونفسية ومهنية. نمط الحياة الحديث، ضغط العمل، تغير تمثلات الأسرة، وتراجع الإحساس بالأمان المستقبلي، كلها عوامل لا يمكن تجاوزها فقط عبر الإعفاء من الأقساط، مهما كانت مغرية.

كما يطرح البرنامج سؤال العدالة الاجتماعية، إذ يستفيد منه أساساً من يملك القدرة على الولوج إلى السكن أصلاً، بينما تبقى فئات أخرى خارج هذا الأفق، إما بسبب البطالة أو ضعف الدخل أو غلاء العقار. وهو ما قد يحول السياسة السكانية، إذا لم تُواكب بإصلاحات أشمل، إلى آلية انتقائية بدل أن تكون سياسة عمومية جامعة.

مع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه المبادرة تعكس تحوّلاً في عقل الدولة، من الاكتفاء بإدارة الأزمات إلى محاولة استباقها بأدوات غير تقليدية. فهي رسالة واضحة مفادها أن الإنجاب لم يعد شأناً خاصاً محضاً، بل قضية مجتمعية تتقاطع فيها اختيارات الأفراد مع مصالح الدولة واستمرارية المجتمع.

في المحصلة، تكشف تجربة هذه المدينة الروسية أن معركة المواليد لا تُخاض في غرف الولادة فقط، بل في سياسات السكن، الشغل، والثقة في المستقبل. وبينما قد لا يكون الإعفاء من الأقساط حلاً سحرياً، فإنه يظل مؤشراً على إدراك متزايد بأن الديموغرافيا، حين تُهمل، تتحول إلى أزمة وجودية يصعب تداركها لاحقاً.

Exit mobile version