Site icon جريدة صفرو بريس

حين تتحدث الحكومة عن الجودة وتمنح المربي “السميك”: مفارقات صارخة في سياسات الولوج لمهنة التعليم

تواصل الحكومة تبرير قرار تحديد السن في الولوج إلى مهنة التعليم باعتباره خطوة ضرورية لرفع جودة المنظومة التربوية، وضمان استقطاب أطر شابة قادرة على مواكبة الإصلاحات البيداغوجية ورهانات المدرسة المغربية الجديدة. غير أن هذا الخطاب، الذي يبدو منسجماً للوهلة الأولى، ينهار عند أول احتكاك مع واقع التعليم الأولي، حيث يشتغل آلاف المربيات والمربين بأجر لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور (السميك)، مقابل مسؤوليات تربوية حساسة تتعلق بالسنوات الأولى من تكوين شخصية الطفل.

فكيف يمكن أن تطالب الحكومة بجودة في التعليم بينما المربي، الذي يُفترض أن يكون أساس الهرم التربوي، لا يحصل حتى على راتب يضمن له الحد الأدنى من الكرامة والعيش اللائق؟ كيف يُنتظر منه أن يغرس القيم، ويطوّر مهارات التواصل، ويواكب مرحلة التأسيس النفسي والمعرفي للطفل، وهو نفسه عاجز عن تغطية تكاليف الكراء والنقل والمعيش اليومي؟

هذا التناقض لا يقف عند مسألة الأجور فقط، بل يتعمق أكثر حين نعلم أن التعليم الأولي مُفوَّض، في جزء كبير منه، إلى جمعيات حصلت على صفقات تُدبّر هذا القطاع. هذه الجمعيات تختلف في كفاءتها وقدرتها التنظيمية، لكن القاسم المشترك بين الكثير منها هو هشاشة الشغل، وغياب الاستقرار المهني، وضعف التكوين المستمر، وغياب نظام مهني واضح يحمي المربي ويحدد حقوقه وواجباته.

كيف يمكن للدولة أن تربط الجودة في الابتدائي والإعدادي والثانوي بمعايير صارمة—من بينها السن—بينما تتساهل في أهم مرحلة على الإطلاق: مرحلة التعليم الأولي؟ هذه المفارقة تضع سياسات الإصلاح التربوي أمام سؤال مركزي: هل الجودة تُفرض على المواطن فقط حين يتعلق الأمر بالولوج إلى الوظيفة، أم أنها يجب أن تُفرض أولاً داخل المؤسسات التي تُكون وتؤطر الأجيال؟

العديد من الخبراء يؤكدون أن التعليم الأولي هو المرحلة الأكثر حساسية في المسار الدراسي، لأنه يؤسس للانضباط، واللغة، والتواصل، والتمثلات الأولى حول المدرسة. فإذا كانت هذه المرحلة تُدار بمنطق “السميك”، وبدون تكوين متواصل، وبدون آفاق مهنية، فكيف يمكن أن ننتظر نتائج تُشبه ما تعرضه الحكومة في أوراق الإصلاح؟

الحديث عن الجودة يجب أن يبدأ من الأجر، من الاستقرار، من التحفيز المهني، ومن وضع إطار قانوني يحمي المربين من الاستغلال. وإلا فإن الخطاب الرسمي سيظل مجرد واجهة يُقدَّم فيها المواطن كسبب للفشل، بينما تبقى السياسات العمومية بمنأى عن المحاسبة.

إن إقصاء فئات واسعة من المواطنين من الولوج إلى مهنة التعليم تحت ذريعة الجودة، في الوقت الذي يتم فيه تكليف مربيات ومربين في التعليم الأولي برواتب هشة وبشروط عمل غير مستقرة، يكشف عن خلل عميق في منظومة التفكير الحكومي. فإذا كانت الجودة هي المعيار فعلاً، فإن أول خطوة لتحقيقها هي ضمان كرامة المربي، وليس فقط تشديد شروط الولوج إلى المهنة.

إن إصلاح التعليم لا يبدأ بتقييد الباب أمام ملايين الشباب، بل يبدأ بخلق بيئة تربوية عادلة، آمنة، ومحفزة، تجعل المربي شريكاً في الإصلاح لا مجرد رقم قابل للاستبدال.

Exit mobile version