لماذا وضعتها داخل سجنك، وأغلقت عليها الباب بالمفتاح؟ بل وأكثر من ذلك، وضعت على بابها حارسا؟ لماذا أبقيتها داخل جوفك طوال هذه السنوات؟ أيعقل أن يستعصي عليك النطق بأخف كلمة على اللسان، وبأثقلها في الميزان؟!.. آه لو كنت قد تجرأت على الجهر بها في حينها، لتغير كل شيء، ولما شعرت بكل هذا الندم والحسرة! فكم من أمور نحسبها تافهة ولا قيمة لها، لكنّها في الواقع يمكن أن تصنع المعجزات، وتحقق ما لا يحققه ما هو أهم وأفيد في نظرنا.
جميعنا نعلم بأنك لم تكن تقصد أو تنتبه لكثرة انشغالاتك، ولعدم توفر الوقت لديك، ونعلم كذلك بأنك قطعت البلاد طولا وعرضا، وحفرت البلاد طوبا وصخرا لأجل توفير الأكل والشرب والكساء لدزينة من الأطفال. صحيح، كان الله في عونك، إذ ليس من السهل إعالة أفواه عديدة من لاشيء، أو بالأحرى من شغل لا يكفي دخله لإطعام حتى بعوضة! لقد فعلت المستحيل كي ترى أولادك كباراً وكما تمنيت، وما شاء الله، هاهم اليوم في أحسن حال: لديهم شغلهم وبيوتهم، وأولادهم.. وها أنت تتذوق طعم العيش وسط أحفادك وفلذات كبدك..! فهل كنت تطمح لأكثر من ذلك؟!
..وهل أنت متأكد من أنك ما نسيت شيئا وسط هذا الزخم من الانشغالات والرّكض وراء لقمة العيش؟ لا لقد نسيت.. إذن، أين هي من كل هذا؟ أليست هي الطرف الأهم في القضية؟ أين ذهبت مجهوداتها وتضحياتها؟ أنت تعلم بأنها هي من حملت في بطنها وخلّفت، وهي من سهرت الليالي ترضع وتقيس الحرارة، وهي من حملت فوق ظهرها وباشرت شغل البيت من ألفه إلى يائه؛ كما أنها هي من كانت تستيقظ باكراً بالرغم من عدم اكتفائها من الراحة والنوم لتهيء لك فطورك، وتسهر على راحتك. وعندما تهم بالخروج إلى الشغل، اعتادت أن ترافقك إلى الباب، وتودعك بابتسامتها العريضة ، ثم تظل النهار بطوله تدعو لك بالعودة سالماً غانماً، وعندما تعود، تستقبلك بنفس الابتسامة التي كانت لك عونا وسندا في شغلك…
وفور توصلي بنبإ موتها، هممت بالذهاب لأجل تقديم التعازي لأعز الأصدقاء وأحكم الحكماء. ذهبت وفي نيتي وجود رجل صلب كالصخر، وشامخ كالجبل. هكذا عهدته. رجل عارك الحياة وعاركته، لكنه انتصر عليها في الأخير بقوة الصبر والجلد. كانت العواطف بالنسبة إليه آخر شيء يتحدث فيه. عُرفَ بالحزم والصرامة والعمل، لولا العصبية التي وسمت طبعه، والتي كانت تتفقده من حين لآخر. فكم مرة غضب وفجّر غضبه فيها بالصراخ والشتم؟! وكم مرّة رفع يده في وجهها وحاول صفعها؟! لكنها كانت تقبل غضبه بالصّمت والهدوء، فكلّ ما كانت تقدر على فعله، هو دخولها الغرفة وإغلاقها الباب على نفسها إلى أن تمّر الأزمة ويعود كل شيء إلى طبيعته.
وعندما وصلتُ ، فوجئتُ برؤية بقايا إنسان مُنهار الجسد والنفس، يقبع فوق كرسي، بعينين غائرتين لا تكفان عن درف الدموع كنبعين لا ينضبان. ولمّا اقتربت منه، انتبه إلي وحاول الوقوف على رجليه المثقلتين والعاجزتين عن حمله لملاقاتي. وما أن حاولت أن أفتح فمي لأنطق بعبارة التعزية، حتى أحاط عنقي بذراعيه مقاطعا إياي باكيا:
ـ لقد رحلت حبيبتي يا أخي محمد.. رحلت الغالية بنت الأصل الطيب..! حاولت تحرير عنقي من بين ذراعيه، فلم أستطع لأنه كان قد أمسك بي جيداً. ولمّا استفحل بكاؤه، شرعت في تهدئته ومواساته ببعض الكلمات:
ـ وحد الله يا أخ عبد القادر! أنت رجل مؤمن ولا يصح أن تفعل بنفسك هذا! كفّ عن البكاء الآن، وادع الله لها بالرحمة والمغفرة، فأنت بهذا الشكل تضرها ولا تنفعها!
أجابني بعد أن أعتق عنقي وعاد للقعود على كرسيه:
ـ فليسامحني الله على عجزي وعدم إمساك نفسي عن بكائها.. وإن لم أبكها، فمن سأبكي إذن؟ فهي حبيبتي ورفيقة دربي، وأنا من دونها لا أصلح لشيء. لقد صبرت علي رغم عصبيتي وطبعي الحاد.. كم أنها ربّت لي أولادي دون أن تشتكي يوما.. إني أعتذر لها عن كل ما صدر مني في حقها. المسكينة توفيت بالمستشفى وإني لجد متأثر لعدم وجودي إلى جانبها، ولعدم سماع كلمة “سامحتك” وهي تخرج من فمها..
وبعد ذلك رفع كفيه نحو السماء وأنطق:
ـ.. أما أنا فقد سامحتك يا حبيبتي.. واعلمي أن قلبي راض عنك دنيا وآخرة.. آه لو كنت الآن معي وأمام عيني، لأسمعتك تلك الكلمة التي طالما أردت البوح بها إليك.. والتي طالما وقفت كشوكة في حلقي.. إني أُحبّك.. والله العظيم أحبّك..!
thiya tayiba akhi najib mawdo3 chayi9 o yarit lokan 3indana hadihi ta9afat al ifsasa7 3ani lmacha3ir .mra akhra chokra 3la lmawdo3 a jamil
تحية خاصة للأديب نجيب مرة أخرى تتحفنا بهذا النص الأدبي الجميل، لقد كنت بليغا في وصف مشاعر الرجل" عاشق فقيدته" و أتقنت رسم الصورة للقارئ .
إنه عمل رائع و يستحق التشجيع واصل أخي نجيب
Vraiment c'est un bon travail qui touche le sentiment.tu dois le continue mon ami.bonne courage