Site icon جريدة صفرو بريس

جنان القرمود -أقصوصة-

في البلدة التي لا وسع لك فيها إلا الصمت , تفقد المعاني دلالتها على الأشياء .

تدخل السماء و الأرض في علاقة تجاور غريبة تتلاشى إثرها دلالات السمو و الارتقاء .

تلك كانت بلدتي , أنا المسمى ع.س .

 لها كغيرها من البلاد جهات أربع وزاوية اقتراب من مدار الجدي .أهلها يقظون حتى الثمالة , فلا يكاد غريب أو حتى قريب  ينجو بفعلته , أيا كانت الفعلة : علاقة حب .. تفويت قطعة أرضية.. عبور الشارع بكيس فواكه .. توقع أزمة .. تدبير اختلاف ..

فضول ؟

 لا سامح الله ! بل هو إكساب معنى للوجود بمحاذاة غابة لا تبوح بأسرارها إلا لغريب أو سائح متجول .

هنا وُلدت أحلام ووُئدت مشاريع الولاء لها قلبا  وجيبا ! هي أرض تأخذ لا لتعطي بل لتسحب من ملامحك ما تبقى من فضيلة الانتماء . أسميتها ذات أرق : جنان القرمود , وللقرميد هنا بلاغته الخاصة في الإحالة على رؤوس لا تكف عن التمتمة بمزمور واحد : كل الوفاء لمن أرخى على حضورها ستار العتمة !

الشتاء يُلقي على وجودك فيها رداء التوجس . كل العيون التي تتفحصك جيئة وذهابا تدلف دونما استئذان إلى خزنة أسرارك ونواياك . مُدان أنت طالما تجد السير في طرقاتها مبتسما لهذا و ملقيا التحية على ذاك .ليس في القلوب هنا متسع للوصال .

في ثنايا الرتابة التي تلازم دورة الفصول , يندس توق غريب للهدم , وزعزعة السلام الهش بين الكائن و المكان . تلفظ البيوت صغارها لتجتاح طرقات البلدة كسرب من القوارض . أجساد صغيرة متحفزة دوما لاختبار صبر الأشياء و ثباتها ! أياد تمتد لتنزع عن الشجر لحاءه , و عن الخضرة بهاءها المعتاد. حتى الطيور في سماء بلدتي لا تكف عن المناورة و الدنو , بحذر المُهربين , من فتات الخبز الملقى على الأسطح و الشرفات .

يفتح الصيف ديوان الجلبة , فتكسر البلدة صمتها المعتاد كلوح زجاج . تتناثر الشظايا في الأزقة و الممرات التي تنضح بالرطوبة و الكسل . لست َ أكثر من صرة نقود في بلدتي ! مادمت تدفع فأنت السيد المالك لصهوة خيلها و ليلها .

 تضج المقاهي بأجساد رخوة و عيون متوثبة . تقرأ الصبايا فيها خبث الرسائل المشفرة فيذرعن الشارع بخطى وئيدة . يطرق سمعك همس بذيء قادم من الزوايا المعتمة . اليوم خمر وغدا خمر , فلا معنى للحياة هنا إن لم تكن قطعة من الهذيان !  

ينفض الخريف عباءة صيفها لتبدأ رحلة المراثي . وجوه يعلوها صدأ السنين وغيظ مكتوم من قسمة الباري لأرزاق الخلق . للقرميد هنا بلاغته في الإحالة على كائن يضيق بالزمان و المكان .

إنها بلدتي , أنا المسمى ع.س

لا وسع لك فيها إلا الصمت , حتى تفقد المعاني دلالتها على الأشياء .

Exit mobile version