Site icon جريدة صفرو بريس

ثنائي خطير: طبيب "مريض" و "مريض" مزور

الوظيفة الإنسانية النبيلة للطب لا يناسبها سوى اللون الأبيض الناصع الذي عرفت به، حتى أطلق على العاملين في الصحة أصحاب البدلات البيضاء. غير أن هذه البذلة الرمزية البيضاء تعلق بها بقع تلطخها وتسيء لسمعتها النبيلة ووظيفتها الإنسانية الراقية في المجتمع، ولعل أقبح تلك البقع العالقة ببذلة الطب هي الشواهد المزورة التي يصدرها عديمو الضمير المهني في قطاع الصحة. 
و خطورة الشهادة الطبية المزورة لا تتعلق فقط بالبعد الأخلاقي في حدود الصفقة التي تتم بين “طبيب مريض” وبين “مريض مزور”، والتي بموجبها يوقع الطبيب شهادة زور لمريض مزور، مقابل منافع مادية أو معنوية، بل تتعداها إلى أثرها الهدام في المجتمع. حيث يتحول “المريض المزور” إلى معطل للمصلحة العامة، أو ظالم معتد على حقوق الغير.
ولعل هذا الأثر الهدام في المجتمع هو الذي دعا المصطفى الرميد، وزير العدل والحريات، نهاية الأسبوع الماضي، إلى إصدار منشور وجهه إلى الوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستئناف، ووكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية يدعوهم فيها إلى التعامل بحزم وجدية مع الشواهد الطبية، واتخاذ الإجراءات اللازمة للوقوف عند صحة الشواهد المشكوك في صحة بياناتها، وذلك من خلال إجراء فحوصات أو خبرات طبية مضادة يعهد بها إلى أطباء شرعيين عند الاقتضاء، أو الإحالة على المجالس الجهوية للأطباء. وترتيب الجزاءات في حال مخالفة تلك الشواهد للواقع. المنشور المشار إليه أكد أن الممارسة العملية في حالات عدة تكشف أن الخلاصات المتضمنة في بعض الشواهد الطبية تكون مبالغا فيها أو تتضمن بيانات مغايرة للحقيقة. 
لكن الخطير في الشواهد الطبية المزورة، في بعدها المجتمعي، هو فيما عبر عنه المنشور، بلغة مخففة، بكون تلك الشواهد  ” لها من انعكاسات في التكييف القانوني للوقائع، أو البث في القضية، أو إثبات الوقائع، أو إثبات الأضرار وغير ذلك مما يمكن أن يحرف مسار القضاء”.
وللشواهد الطبية المزورة ثلاثة أدوار مجتمعية مدمرة:
الأول، التلبيس على العدالة وتغيير مسارها أو تعطيلها، ذلك أن الأنظمة القضائية في العالم تعتبر الشهادة الطبية وسيلة إثبات أساسية وحجة دامغة، وحين تكون تلك الوثيقة مزورة فذلك يعني ضياع حقوق وإلحاق ظلم بأبرياء قد يضع حدا لحياتهم باسم العدالة. “والممارسة العملية في هذا المجال تبين أنه بمقتضى شواهد طبية على سبيل المجاملة، يمكن أن يعتقل أشخاص ويدخلون السجون وتهدر كرامتهم وحقوقهم، وأنه عن طريق الإدلاء بشاهدة طبية يمكن أن تكيف الواقعة على أساس أنها مجرد جنحة عادية بينما هي تتعلق بعاهة مستديمة يكون الاختصاص فيها لمحكمة الجنايات”. 
والثاني، المخاطرة بالصحة العامة، وذلك حين تمكن الشواهد المزورة المواد الفاسدة من الحماية القانونية، فيتم ترويجها بشكل قانوني في الأسواق. كما تكون الشواهد الطبية المزورة طوق نجاة مفسدين، يروجون لمواد منتهية الصلاحية أو غير مرخص بها، وتكون تلك الشهادة فاصلة في نجاتهم من العقاب بنسف أية علاقة لتلك المواد بما تسببت فيه من تسممات لأشخاص يقعون ضحايا استهلاكها. غير أنه في ظل انتشار المواد الغذائية المعدلة وراثيا يكون التساهل مع التزوير في الإشهاد الطبي أمرا خطيرا للغاية، تقع ضحيته حتى الدول الكبرى. 
وتكشف فضيحة لحوم الأحصنة التي عرفتها دول الاتحاد الأوروبي السنة الماضية، الدور الحيوي للشهادات الطبية على المواد المستهلكة، حيث روجت لحوم أحصنة مستوردة على أنها لحوم أبقار، وهذا التلاعب، حتى وإن خلا من الأضرار الصحية، فقد تكون له تداعيات خطيرة من نوع ديني حين يتم ترويج لحوم حرام تحت علامة حلال مدعومة بشواهد مزورة.  
الثالث، تعطيل مصالح المواطنين بتبرير الغياب عن العمل بغير وجه حق. وتكون لهذه الشواهد المزورة آثار كارثية خاصة في القطاعات الخدماتية العامة مثل التعليم والصحة والإدارات العمومية، حيث تتعطل مصالح المواطنين بشكل خطير بسبب تلك الشواهد، وفي هذا الصدد يمكن التذكير بالمعطيات التي كشفت عنها وزارة التربية الوطنية المتعلقة بتلك الشواهد و تكريسها لهدر الزمن المدرسي والذي يكون ضحيته أبناء المواطنين الأبرياء، إذ كشفت أن 17 ألف و640 شهادة طبية وردت على مصالح الوزارة في أقل من نصف سنة، تمثل عدد أيام مرض بلغت 55 ألف و852 يوما، و فتحت الوزارة والمصالح المختصة تحقيقات لمعرفة مدى صحة تلك البيانات. وقد أفضت التحقيقات والأنظمة المعتمدة إلى اكتشاف شبكة من الأطباء شبه متخصصين في إصدار الشواهد الطبية، مشتبه في كونهم يمتهنون التزوير بدل الطب ببدلاتهم البيضاء. 
وكثيرا ما يعاني مواطنون من تعطل مصالحهم بسبب غياب موظفين عن عملهم لحضور مناسبات أو السفر وغير ذلك بناءً على شواهد طبية مزورة.  
إن “الشواهد الطبية المزورة” وصمة عار على جبين مهنة الطب الشريفة، وتفشي هذه الظاهرة الخطيرة، بالإضافة إلى ظواهر أخرى ليس أقلها عدم احترام أخلاقيات المهنة، و إضفاء الطابع التجاري على المهنة، وغير ذلك من الاختلالات، تؤكد على أهمية معالجة البعد الأخلاقي في تكوين الأطباء، والمتابعة الصارمة من طرف هيئاتهم المهنية للمتورطين فيها وذلك بإقصاء المتهمين منها بصفة نهائية، وتوقيع أقصى العقوبات على الذين يتهمون بالتزوير في مجال الصحة، لما له من أهمية قصوى في توفير الأمن والعدالة في المجتمع.

Exit mobile version