Site icon جريدة صفرو بريس

تاريخ قيادة بني يازغة بين الواقع والخيال (الحلقة الأولى)

 ـ توطئة:

لعل أغلب الدراسات والأبحاث التاريخية التي تناولت تاريخ قبيلة “بني يازغة” تفتقر في مجملها إلى عمق التناول، ودقة التحقيق، وجدية البحث.. وينقصها الإلمام بكثير من التفاصيل الجوهرية.. نظرا لشح المصادر، وعقم الموارد، وندرة الوثائق والنصوص المتعلقة بتاريخ هذه القبيلة العريقة.

   وسنحاول جاهدين من خلال هذه السلسلة من المقالات التي تنشر بجريدة صفروبريس والتي ستكلل بنشر كتاب من إصدار الجريدة : إلقاء بصيص من الضوء، حول جزء يسير من تاريخ قيادة “بني يازغة”. عبر الاعتماد على مجموعة نادرة وفريدة من الوثائق والنصوص، تتعلق بهذا الخصوص. وتنشر لأول مرة وبشكل حصري على الجريدة. آملين من خلال هذه التجربة المتواضعة إثراء الرصيد التاريخي للقبيلة؛ وزرع بذرة البحث والتقصي، التي قد تنمو وتترعرع وتزهر وتزدهر عبر تجارب وآراء جديدة تميط القناع، وتثري النقاش، وتنير مجاهل ماضي القبيلة الموغل في النسيان.

 ـ نبذة عامة عن تاريخ قبيلة “بني يازغة”

   أجمعت عدة دراسات تاريخية اعتمدت على مصادر شفوية محضة، على كون تاريخ قبيلة “بني يازغة” يمتد في العراقة إلى ما قبل دخول الأدارسة إلى بلاد المغرب الأقصى (أوخر القرن الثاني الهجري). حيث كانت هذه القبيلة المنتسبة إلى قبائل زناتة تستوطن ما يسمى حاليا مدينة “فاس”. وبعد أن استطاب المولى ادريس الثاني موطنهم هذا، بعد أن عاينه وزيره عمير بن مصعب وأعجب ببساتينه، ووفرة مياهه، اشتراه منهم لأجل بناء مدينة فاس عاصمة الدولة الإدريسية. حيث اضطرت قبيلة “بني يازغة” إلى الهجرة صوب الجنوب الشرقي لتستقر بموطنها الحالي: “المنزل” والذي كان مجاورا لأربعة قبائل بربرية حينذاك (مابعد 192 هجرية) ورغم هذا الاندماج بالسكان الأصليين والقبائل المجاورة؛ فقد حافظت قبيلة “بني يازغة” على أصالتها وتقاليدها وكثير من عادتها، وظلت تتحدث اللغة العربية. بل إن السكان الأصليين “الفندلاويين” هم من تعرضوا للانصهار بالقبيلة، وللتعريب القسري. وظلت بعض الكلمات المعربة، وكذا أسماء بعض المناطق الجغرافية شاهدة على هذا التحول (تاغروت، تاغيت..ماطة..) ولم يورد المؤرخون شيئا عن مصير قبيلة “فندلاوة” السكان البرابرة الأصليين بعد هجرة واستقرار اليازغيين.

   وقد ارتبطت قبيلة “بني يازغة” على مر العصور بمركز السلطة بمدينة فاس، وظلت تؤدي الخراج لمختلف السلاطين الذين تعاقبوا على الحكم بها. بَيْدَ أن هذا التحول أثر على استقرار المنطقة، التي شهدت صراعات قبلية، وحروبا أهلية، وغارات عديدة بين قبيلة “بني يازغة” والقبائل البربرية المجاورة (بني وراين وبني سادن..) في سبيل السعي إلى بسط السيطرة على الأراضي الصالحة للزراعة والرعي، وقطع الطريق على المسافرين والقوافل التجارية المتجهة صوب مدينة فاس. حيث اتخذت أغلب الهجومات طابع السلب والنهب، وخلفت عددا لا يستهان به من القتلى والأسرى.

  ـ تنصيب قائد قبيلة “بني يازغة”

   وإبان عهد السلطان العلوي مولاي الحسن الأول خلال القرن الثالث عشر الهجري، فقد استفحلت  هذه الصراعات، وتطورت هذه الهجومات، واستمرت أعمال السلب والنهب، وقطع الطريق على طول الخط التجاري الرابط بين المنزل وفاس. حتى بلغت في مداها وأوجها أقاصي ساكنة المدينة العريقة. حيث بدأ التطاول على أرواح وأملاك الأهالي من مواشي ومزروعات ومؤن.. وأصبحت الحاجة ملحة لتنصيب قائد “بني يازغة” في سبيل إخماد هذه الثورات وتطويق هذه الغارات، التي زعزعت استقرار المنطقة، بغية استباب الأمن والطمأنينة لدى الأهالي، والقطع مع زمن “السيبة”.

   وتجمع عدة روايات شفوية على كون السلطان الحسن الأول الذي كان مقيما بمدينة فاس، قد أرسل لهذا الغرض في مطلع سنة 1291 هجرية، مبعوثيْن لقبيلة “بني يازغة” (أغلب الظن أن أحدهما وزيره) متنكرين في ثياب فقهاء يقصدون المساجد للصلاة، ويستجدون كرم الأهالي وجودهم. وشاءت الأقدار أن تمر هذه البعثة بامطرناغة والمنزل، ويتنكر وجهاء وأعيان المنطقة لإكرام وفادة هذين الضيفين المتنكرين، حتى يبلغا دوار أولاد مكودو ليتجشم أحد أبنائه “حمادي البوكّريني” عناء وفادتهما دون التعرف عليهما، بعدما عرف عنه من جود وكرم وسخاء، رغم ضيق الحال وقلة ذات اليد. وبعد إكرام الضيفين لثلاثة أيام مسترسلة يصر “حمادي”على حملهما على الركائب في اتجاه طريقهما نحو مدينة فاس. حيث كانت الطريق تفتح في وجه هذا الشهم كلما ذكر اسمه (تشير الروايات إلا أنه كان شجاعا مقداما تهابه القبائل وتتقي شره) وعند الوداع على مشارف فاس، يشير عليه الوزير بضرورة حضورمراسيم تنصيب قائد قبيلة “بني يازغة” ويلح عليه في ذلك إلحاحا عجيبا، دون أن يخبره بواقع الحال.

   وتمر الأيام سريعا بعد هذه الواقعة، ويقبل شهر رجب من عام 1291 هجرية فتتوافد الوفود على قصر السلطان بمدينة فاس، ترقبا لحضور الحدث المتميز، والمتمثل في حفل تنصيب قائد القبيلة. وفي الوقت الذي تتطاول فيه أعناق وجهاء اليازغيين وأكابرهم، وتشرئب رؤوسهم نحو معرفة هذا المحظوظ.. ينام “حمادي” قرير العين غير بعيد عن الحشد في العراء. فينادي “البراح” على حين غرة ملء صوته أن: “حمادي البوكّريني السوغاتي” هو قائد “بني يازغة”. لتصل إليه البشرى وهو مستلق على ظهره في ثيابه البسيطة، وهو أبعد ما يكون عن مطامع القوم، وحرصهم على هذا المقام الرفيع.. والحظوة المتميزة.. ليتم تنصيبه في يوم الرابع والعشرين من شهر رجب وسط تأفف الحاضرين ودهشتهم واستنكارهم، بعد أن جاء تقرير الوزير يؤكد على هذا الاختيار ويدعمه. وفيما يلي النص الكامل لظهير السلطان الحسن الأول في تنصيب قائد “بني يازغة”: “خدامنا الأنجاد قبيلة بني يازغة كافة وفقكم الله وأرشدكم وسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فقد ولينا عليكم أخاكم خادمنا الأنجد القائد حمادي بوكّرين السغاتي وأسندنا إليه النظر في أموركم الخاصة والعامة فكونوا عند أمره في جميع ما يأمركم به من أمور خدمتنا الشريفة أسعدكم الله به وأسعده بكم والسلام في رجب الفرد الحرام عام 1291هجرية”

Exit mobile version