صفاء أحمد آغا
مهرجان مراكش السينمائي الدولي للفيلم الدورة 21 ينجح كعادته في جلب أهم وأقوى الأفلام في السينما العربية والعالمية لجمهور مراكش الشغوف كعادته والذي أصبح لا يرضى بمستوى أقل مما تعود عليه من سينما عالية الجودة من مختلف الجوانب سواء تقنيا أو تمثيليا .
إدارة المهرجان كانت سخية هذه في تقديم أصناف متنوعة لمرتدبها الذين حاجوا بالآلاف لمشاهدة الصنف الإيراني المنتقى بعناية فائقة لمخرجه العالمي ” محمد رسولوف ” الذي أعطى لجمهور ه ” بذرة تين مقدسة ” على طبق سردي متناغم إستطاع من خلاله الرحيل بالمتلقي ثلاث ساعات دون كلل أو او ملل عبر أسلوب بصري قوي ومثقن ، حيث تتنوع اللقطات بين الهدوء والدراما التي تبرز قدرة ” رسولوف ” في إستخدام التصوير السينمائي للتعبير عن المشاعر و الأفكار المعقدة بشكل مؤثر غالبا ما يعتمد فيها على الإضاءة الطبيعية و الزوايا غير التقليدية من خلال مشاهد بسيطة لكن مؤثرة .
” رسولوف ” كاتب و مخرج ” بذرة التين المقدس ” حاول تقديم قصته ، بطريقة عميقة وجذابة بمعنى مغاير و لافت أكثر ، بأنه بدلاً من أن يخوض في تفاصيل المعتقلات ومسالخها، التي تعفُّ شرائح كبيرة من المشاهدين عن مشاهدتها، قام بنقل الأحداث الملتهبة لعائلة بسيطة ومكتفية مادياً، تتألف من زوج وزوجته وإثنتين من البنات كانتا في مقتبل العمر ، الشريحة التي يؤمل عبرها التغيير والتي أشعلت تظاهرات عارمة بعد إعلان وفاة فتاة إيرانية من أصول كردية، هي “آمسا أميني”، بعد تعذيبها من قبل “شرطة الأخلاق” أثناء إعتقالها بتهمة “عدم إرتداء الحجاب بطريقة سليمة”، والادعاء أنها ماتت جراء سكتة دماغية ما.
نشاهد عبر مسار الفيلم الزمني إنتشار حريق الاحتجاجات وعملية الإحراق من قبل السلطة، وقد إنتقلت بهدوء وبالتدريج، لداخل منزل أحد المترقيّن حديثاً لرتبة محقق في أحد أجهزة الأمن الإيرانية، إذ ينتهي بتفعيل الممارسات التي يفعلها مع المعتقلين الغرباء، مع أقرب الناس إليه هذه المرة، ليظهر لهم جليا الجانب الحقيقي من شخصية هذا الأب الذي كان يدعي أمامهم المثالية و الذي سرعان ما ينهار، حين يوضع في موضع الرد على بعض تساؤلات إبنتيه، ويكشف عن شخصية خاضعة تماماً للنظام الذي يعمل فيه ويخلص له. وبالرغم من الإدعاء أن كل شيء تحت السيطرة وبمتناول اليد من قبل المحقق، الذي يمثل النظام الإيراني، ويتم تحويل المنزل مكان السكينة والراحة والطمأنينة، لمركز تحقيق ومحكمة لا توجد فيها أدنى مقومات العدل أو الثقة بين الموقوف، والنظام الذي يفترض أنه يحمي الجميع بقوة القانون، الذي يحتكم إليه الجميع، الحاكم والمحكوم.
الإضاءة الخافتة، والأماكن الرطبة والباردة التي إحتجز فيها الأب الذي يحمل نقيض إسمه ” إيمان ” زوجته وإبنته، وإستخدام الكاميرا أثناء تسجيل المراجعات مع زوجته وإبنتيه، والتي كانت أشبه بمرتبة إعترافات ، كان “إيمان” يخوضها يومياً في شؤون عمله، وهي كلها مفردات أمنية باطشة يتعامل معها هذا الأب بشكل أساسي في عمله، مع أنه كان أباً مثالياً حقق لابنتيه كل ما تحتاج إليه الفتيات في مجتمع محافظ.
لنجد أحداث الفيلم تتسارع باتجاه نهاية مأساوية محتومة، بفعل إختيارها لجهة “أبوية” إدعت أنها الجهة الأكثر صلاحاً وسيطرة.
أما بذور التين المقصودة في الفيلم، فلعلها رمز للتحولات الاجتماعية والسياسية التي تخوضها إيران، إذ تتصاعد درجة رفض القمع على الرغم من القسوة والعنف التي ترد بها السلطة على المطالبين بالتغيير. لاحقاً تصبح هذه البذور رمزًا للإيمان بالتغيير الآتي لا محالة، وتظهر البذار جلياً في شخصيات الفتيات والأم، اللواتي انتقلن من بيئة عائلتهن الموالية للسلطة، باتجاه الانقلاب على السلطة والنظام، وتأييد الاحتجاجات التي تتزايد يوماً بعد يوم، ما سيجعلهن بذوراً جديدة ربما ضعيفة الآن، ولكنها ستنمو بالرغم من سيطرة القهر والأمن .
كما عمد المهرجان على تقديم ماستر كلاس خاص بالمخرج قبل عرض الفيلم لأهمية هذا المخرج والمواضيع التي يناقشها ليحاول إيصال رسالات شعبه المضطهد للعالم عبر سينماه كقوى ناعمة في تأثير على المجتمعات .
محمد رسولوف مخرجٌ من الطراز السينمائي الواقعي، تسعى أعماله لإلقاء الضوء على دقائق اجتماعية تعتبر خارجة عن منطق السلطة الدينية المسيطرة على تفاصيل الحياة في إيران، ومعارضته السياسية كذلك لأساليب السلطة في التعامل مع المعارضين. وتم اختيار فيلمه هذا ليكون في مهرجان “كان” الذي انعقد في دورته الـ77 جنوب فرنسا، وسبق أن حصل على جائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين بنسخته 2020 عن فيلمه المعارض لتنفيذ حكم الإعدام “لا وجود للشيطان”.
حيث صرح قائلا أثناء الماستر الكلاس الخاص به : مؤخراً، تم إصدار حكم لسجني خمس سنوات، وحسب محاميا فقد “حُكم عليا أيضًا بالجَلْد والغرامة ومصادرة ممتلكاتي ، ما إضطرني للهرب بطريقة ما من براثن السلطات هناك متوجهاً لألمانيا، وكانت التهم الموجهة له تشجيعه المواطنين على التظاهر، ومطالبته بضرورة تخلي الدولة عن إستخدام العنف والسلاح ضد المعارضين لسطوتها.
يُظهر هذا الحكم التهديدي التصعيدي التحديات التي يواجهها الفنانون في إيران في التعبير عن آرائهم أو مناقشة القضايا الاجتماعية والسياسية. وبإمكاننا القول إن هذه التحديات تعكس التوتر بين الفن والرقابة في المجتمع الإيراني الذي ضاق ذرعاً بتحكم نظام الملالي فيه.للإحتجاجات العارمة التي إجتاحت الأراضي الإيرانية وتصدت لها قوات الأمن والشرطة بالعنف والاعتقالات والتصعيد.