منذ بزوغ الإسلام في المدينة المنورة، ظهرت الزكاة كأول نظام مالي منظم عرفه العرب، وأول خطوة نحو إقامة مجتمع العدالة والتكافل. لم تكن الزكاة صدقة فردية، بل كانت مؤسسة اقتصادية ذات أبعاد سياسية واجتماعية، هدفها إنهاء الفقر البنيوي لا مجرد التخفيف منه. فقد أسس الرسول نظامًا متكاملًا يجمع الزكاة ويوزعها وفق مصارف محددة في القرآن، ليربط بين العبادة والتنمية، وبين المال والكرامة الإنسانية. وعندما تولى أبو بكر الصديق الخلافة، أعلن الحرب على مانعي الزكاة، لأن الامتناع عنها كان يعني التمرد على جوهر الدولة الجديدة، أي على العدالة نفسها.
في عهد عمر بن الخطاب، بلغت مؤسسات الزكاة والوقف ذروة التنظيم والفعالية، فتوسع بيت المال وصارت الزكاة والفيء والجزية والوقف موارد دائمة تمول الخدمات العامة. يذكر المؤرخون أن الفقر اختفى تقريبا في بعض أقاليم الدولة، حتى روي أن عامل عمر في إفريقيا لم يجد من يستحق الزكاة. لم يكن ذلك معجزة، بل ثمرة إدارة رشيدة للثروة وتوزيعها بعدل، حيث خُصصت أموال الوقف لبناء المدارس والمستشفيات وطرق القوافل ودور الأيتام. بهذا أصبح المجتمع الإسلامي يمتلك اقتصادًا تضامنيًا متكاملًا، خفف العبء عن الدولة ومنحها مرونة سياسية واقتصادية نادرة في تاريخ الأمم.
ومع توسع الدولة الأموية ثم العباسية، تحولت مؤسسة الوقف إلى أحد أعمدة القوة الحضارية. ففي بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وبيت المقدس كانت المدارس والمستشفيات والمكتبات تمول كلها من الأوقاف لا من خزينة الدولة. مستشفى البيمارستان النوري بدمشق كان يقدم العلاج المجاني للمرضى من جميع الأديان، وجامعة القرويين في فاس والأزهر في القاهرة استمرا قرونًا طويلة بفضل أوقاف خصصها رجال ونساء لخدمة العلم. وهكذا صارت الأوقاف بنية تحتية للعلم والصحة والكرامة الاجتماعية، حافظت على استمرارية الحضارة الإسلامية حتى في فترات الضعف السياسي.
وفي الأندلس، ازدهرت قرطبة وغرناطة وإشبيلية بفضل نظام الزكاة والوقف، حيث انتشرت المدارس والزوايا التي تعلم الفقراء بالمجان. وتشير بعض المصادر إلى أن عدد الأوقاف في الأندلس تجاوز خمسين ألف وقف، تشمل أراضي زراعية وأسواقا تعود أرباحها للتعليم والرعاية الاجتماعية. هذا النظام جعل المجتمع متوازنًا وقادرًا على الصمود دون حاجة لقروض أو مساعدات خارجية، أي أن العدالة الاجتماعية كانت تصنع داخليًا دون وسطاء أو مؤسسات استعمارية.
أما في العصور المملوكية والعثمانية، فقد بلغت الأوقاف درجة من التنظيم جعلتها تمثل ما بين 15 و30 في المائة من الأراضي الزراعية في بعض الولايات. في إسطنبول وحدها كانت هناك آلاف الأوقاف التي تمول المدارس والحمامات العامة والجسور والطرقات وموائد الطعام للفقراء. ويصف بعض المؤرخين الاقتصاديين مثل تيمور كوران ودنيز كندال الوقف بأنه “المجتمع المدني قبل أن يولد في أوروبا”، لأنه خلق فضاء اقتصاديا واجتماعيا مستقلا عن السلطة السياسية، لكنه في خدمة الصالح العام.
هذا التكافل المؤسسي جعل الدولة الإسلامية في أوج قوتها قادرة على تمويل الجيوش والبعثات العلمية دون الحاجة إلى ضرائب مرهقة أو ديون خارجية، وهو ما منحها سيادة مالية كاملة، قائمة على الجمع بين الزكاة كواجب ديني والوقف كإحسان تطوعي دائم. الفقير كان يجد نصيبه من الزكاة، والعالم يجد تمويله من الوقف، والمريض دواءه في مستشفى وقفي، والمسافر مأواه في زاوية أو رباط وقفي.
لكن مع دخول العصور الحديثة وتفكك الدولة العثمانية وتغلغل النفوذ الاستعماري، تمت مصادرة كثير من الأوقاف أو إخضاعها لرقابة الدولة، ما أدى إلى شلّ دورها الاجتماعي. في مصر مثلا، بعد حملة محمد علي ثم الاحتلال البريطاني، تحولت الأوقاف إلى مصدر تمويل حكومي بدل أن تبقى مستقلة، ومع تأسيس الدول الوطنية الحديثة تراجع نظام الزكاة إلى مجرد عمل خيري محدود. بذلك فقد العالم الإسلامي أحد أعمدة قوته الذاتية، ودخلت دوله في دوامة القروض والمساعدات التي كرّست التبعية الاقتصادية.
في عصرنا الراهن، تعود فكرة الزكاة بقوة إلى الساحة الفكرية والاقتصادية، خصوصًا مع مبادرات مثل “واف” التي تسعى إلى استعادة السيادة على العمل الخيري الإسلامي، بعد أن أصبحت مؤسسات غربية تحاول إدماج الزكاة في منظومتها المالية لتجميل صورتها أو لتوجيه أموال المسلمين نحو أجندات سياسية واقتصادية لا تخدمهم. التحذير من هذه “المنظمات العلمانية” له وجاهته، لأن دمج الزكاة في المنظومة المالية الدولية قد يحولها إلى أداة ناعمة لتبييض صورة المؤسسات الغربية بدل أن تكون أداة تحرر من التبعية الاقتصادية. لكن في المقابل، لا يمكن إنكار أن العالم الإسلامي يفتقر إلى مؤسسات زكاة موحدة وشفافة، وأن التشرذم والبيروقراطية الداخلية تفتح الباب أمام هذه الهيئات الدولية.
الأرقام التي تكشفها التقارير الاقتصادية المعاصرة تؤكد أن الزكاة يمكن أن تكون فعلا اقتصادا موازيا للرأسمالية. فبحسب البنك الإسلامي للتنمية (IsDB)، يتراوح إجمالي أموال الزكاة المحتملة في العالم الإسلامي بين 550 و700 مليار دولار سنويا، بينما لا يُجمع فعليا سوى 3 في المائة منها فقط بسبب ضعف التنظيم. ويضيف تقرير المؤسسة الإسلامية لتنمية القطاع الخاص (ICD) لعام 2024 أن توجيه نصف هذه الأموال نحو مشاريع إنتاجية في قطاعات التعليم والصحة والمقاولات الصغيرة يمكن أن يقلص الفقر بنسبة 60 في المائة خلال عشر سنوات فقط.
أما تقرير بيت الزكاة الكويتي (2023)، فيؤكد أن الدول التي تبنّت نظام الزكاة المؤسسي، مثل ماليزيا وإندونيسيا والسودان، شهدت انخفاضًا ملموسًا في معدلات الفقر، إذ تراجع في ماليزيا من 8.5 في المائة سنة 1984 إلى أقل من 0.4 في المائة سنة 2020 بفضل دمج الزكاة في السياسات الاجتماعية. ويشير مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز (IICIE) إلى أن جمع الزكاة بانتظام في 57 دولة إسلامية كفيل بتغطية احتياجات 40 في المائة من فقرائها دون الحاجة إلى ديون أو معونات خارجية.
وتجربة صندوق الزكاة الإندونيسي (BAZNAS) مثال واضح على فعالية الإدارة الحديثة للزكاة، إذ جمع في سنة 2024 أكثر من 17 تريليون روبية، مول بها 45 ألف مشروع صغير و30 ألف منحة دراسية، ما جعله محركًا اقتصاديًا وتنمويًا حقيقيًا. هذه النماذج تثبت أن الزكاة حين تُدار بمؤسسات شفافة يمكن أن تتحول من عبادة إلى منظومة اقتصادية تحرر الشعوب من التبعية وتعيد الثقة إلى الاقتصاد الإسلامي.
إن التاريخ والواقع والاحصاءات الحديثة كلها تلتقي عند حقيقة واحدة: الزكاة والوقف كانا دائما الركيزة التي قامت عليها القوة الإسلامية، وحين ضعفا ضعفت الأمة. فحين كانت الأوقاف تمول الجامعات والمستشفيات والمشاريع الاجتماعية، لم تكن الدول الإسلامية بحاجة إلى قروض ولا إلى شروط صندوق النقد الدولي. أما اليوم، فإن إحياء مؤسسات الزكاة والوقف ليس مجرد دعوة دينية بل مشروع سيادي واستراتيجي لاستعادة الاستقلال الاقتصادي.
إذ لا يمكن للعالم الإسلامي أن يتحرر من التبعية ما دام اقتصاده مرهونًا بالقروض والهبات، بينما يملك داخله ثروة تضامنية يمكنها أن تغني الفقير وتمول التعليم وتبني اقتصادا مستقلا. فالزكاة ليست مجرد عبادة، بل عقد اجتماعي بين الفرد والمجتمع، بين المال والكرامة. وإذا أُديرت الزكاة والوقف بكفاءة وشفافية، فإنهما لا يقضيان على الفقر فحسب، بل يعيدان تعريف العدالة نفسها، ويثبتان أن الثروة حين توضع في خدمة الإنسان تصبح طريقًا للحرية لا للاستعباد.

