شؤون دينية

الدليل والبرهان لدحض حجة المناصرين لحرمة الصيام بعد النصف من شعبان

بقلم الفقيه الشيخ المقرئ عبد اللطيف بوعلام.

أما بعد؛ فهذا سؤال استعجالي وردني من بعض الإخوة الغيورين على ضبط الأمور الدينية في ما يتعلق بحكم الصيام في النصف الأخير من شعبان.
وللإخبار؛ فلقد سألني_ أيها الأخ العزيز _ كثير من الناس في هذه الأيام عن حكم صيام النصف الأخير من شعبان؛ هل يجوز أم لا؟ ومتى يجب أن يتوقف الصائم عن الصيام قبل رمضان؟ وهل يجوز أن يصل في الصيام شعبان برمضان؟ والبعض منهم في حيرة؛ بحيث يسمع من بعض الوعاظ: لا يجوز الصيام بعد منتصف شعبان؛ بينما البعض الآخر يقول: لا بأس؛ الشيء الذي أوقع بعض العوام في لبس من أمرهم.
ولإشفاء غليل السائلين حول هذه المعضلة الفقهية:
لا داعي _ أيها الإخوة والأخوات الأعزاء _ للحيرة هنا؛ فقد اختلف العلماء في حكم صيام النصف الأخير من شعبان قديما، واختلافهم هذا لا يؤدي إلى الالتزام الكلي والانضباط بالمسألة كأنها وحي يوحى؛ بل هو رحمة وسَعَة مبنية على عرمرم من الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب، وهي على قسمين: أحاديث القاعدة العامة، وأحاديث الاستثناء الخاص.
فلنبدأ بالأحاديث المؤصّلة للقاعدة العامة الدالة على أن صيام شعبان كله أو جله أو بعضه سنة مرغبة فيها من غير استثناء؛ منها الحديث الذي رواه الإمام مالك والبخاري ومسلم عن عائشة _رضي الله عنها _ من أنها قالت: « كان رسولُ اللهﷺ يصوم، حتى نقولَ: لا يفطر، ويفطر حتى نقولَ: لا يصوم، وما رأيتُ رسولَ اللهﷺ استكمل صيام شهر قطُّ إِلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان».
وفي رواية أخرى عند الترمذي أنها قالت: «…كان يصومه إِلا قليلاً، بل كان يصومه كلَّه»، ومثله في رواية أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أضف إلى ذلكم ما رواه الترمذي وحسنه عن أم سلمة -رضي الله عنها-: قالت: «ما رأيتُ رسولَ اللهﷺ يصوم شهرين متتابعين؛ إِلا شعبانَ ورمضانَ».
وكذلك ما رواه النسائي وصححه ابن خزيمة وابن حجر، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما – قال: قلت يا رسول الله؛ لم أرَكَ تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قالﷺ: «ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين وأحِب أن يُرفع عملي وأنا صائم».
وما رواه أبو يعلى بسند حسن عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «قلت يا رسول الله؛ أحب الشهور إليك أن تصومه شعبان؟ قال: إن الله يكتب فيه على كل نفس ميِّتة تلك السنة؛ فأحب أن يأتني أجلي وأنا صائم».
وهذه الأحاديث الصحيحة كما ترون تحث على الصيام في شعبان بحسب الوُسع.
أما القسم الثاني، فسنتناول فيه أحاديث الاستثناء الخاص، والتي تدل على أن سُنية صيام شعبان باستثناء يوم واحد فقط، وهو يوم الشك؛ والمراد به اليوم الثلاثون من شعبان عند عدم ثبوت رؤية الهلال؛ ودليله ما روى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول اللهﷺ قال: «لا يتقدمنَّ أحدُكم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ إِلا أن يكونَ رجل كان يصومُ صومه فليصم ذلك اليوم».
واختلف العلماء في صومه، فالمشهور عند المالكية أن صيامه مكروه -وهو قول عند الشافعية؛ فإن صامه بنية النافلة وعلى وجه التطوع أجزأه، وإن صامه بنية رمضان وعلى وجه الاحتياط خوفا أن يكون من رمضان لم يجزئه ولو ثبت أنه رمضان.
قال الشيخ خليل: “وَصِيمَ (أي: جاز صوم يوم الشك) عادة وتطوعا وقضاء ولنَذْر صادف؛ لا احتياطا”.
والمشهور عند الشافعية في هذه النازلة أن صيامه حرام؛ فإن صام بطل، وبه قال ابن عبد السلام التونسي المالكي مستندا على ما رواه أبو داود والترمذي وصححه أن عمار بن ياسر _ رضي الله عنه _ قال: ” من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسمﷺ “.
وقال الحنفية: إنْ صامه بنية الفرض فهو حرام وبطل صيامه، وإن صامه بنية النافلة جاز وصح، وهذا الحكم في رواية عند الحنابلة. والرواية الأخرى عندهم أن صيامه واجب، وأجزأ إن كان من رمضان، وإلا فنافلة؛ وذلك لما رواه أحمد والبيهقي عن عبد الله بن أبي موسى أنه سأل عائشة -رضي الله عنها- فقالتْ: «لَأن أصوم يوما من شعبان أحب إليَّ من أن أُفطِر يوما من رمضان. قال: فخرجتُ، فسألتُ ابن عمر وأبا هريرة؛ فكل واحد منهما قال: أزواج النبيﷺ أعلم بذاك منا»؛ قال الهيثمي: “رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح”.
ملحوظة: قول المالكية في المشهور عندهم بالكراهة نظرا لاختلاف الأدلة بين من قال بالتحريم أو الجواز أو الوجوب إلا يوما أو يومين؛ نظرا لاحتمال ثبوت الهلال في غروب اليوم التاسع والعشرين من شعبان، فينبغي التوقف عن صيامه؛ ليكون آخر يوم للصيام هو الثامن والعشرون خشية اختلاط النفل بالفرض؛ إلا لمن كانت عادته صوم يوم معين كالإثنين أو الخميس مثلا فيجوز له ذلك؛ ودليله ما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول اللهﷺ قال: «لا يتقدمنَّ أحدُكم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ إِلا أن يكونَ رجل كان يصومُ صومه فليصم ذلك اليوم» إلا النصف الأخير منه لِما رواه أبو داود والترمذي وابن حبان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول اللهﷺ يقول: «إِذا انتصف شعبان فلا تصوموا». واختلف فيه العلماء كعادتهم: منهم من قال بجواز الصيام بعد النصف من شعبان مطلقا؛ بل هو مستحب مرغب فيه؛ لأن هذا الحديث فيه مقال؛ فقد صححه الترمذي وابن حبان، وقال أحمد وابن معين: إنه منكر.
وبناء عليه؛ فلا يمكن تخصيصه للأحاديث الصحيحة السابقة الدالة على سنية صيام شعبان كله.
ومنهم من قال بالكراهة مطلقا؛ وعليه يكون الأوْلى التوقف عن الصيام بعد منتصف شعبان احتياطا لرمضان حتى لا يلحق به ما ليس منه.
قال ابن العربي في تعليقه على الحديث المذكور: * لا يجوز استقبال رمضان ولا اتباعه بصوم؛ فلا يحل اتصال الست من شوال بيوم الفطر ولكن يصومها متى شاء بعد ذلك؛ وإنما كان النبيﷺ يصوم في شعبان أكثر مما يصوم في غيره لأنه ربما شُغِل عن صيام الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره، فيقضيها في شعبان *.
ولنجمل الكلام، فمنهم من قال بالكراهة للضعيف والمريض لئلا يُتْعِبه الصيام، وليتقوى بذلك على صيام الفرض في شهر رمضان”؛ أما من كان من الأصحاء؛ فلا حرج أن يصوم النصف الأخير من شعبان.
ومنهم من قال بالكراهة إلا لمن كان يعتاد الصيام؛ مثل يوم الإثنين ويوم الخميس؛ فلا بأس بالنسبة له أن يصوم ذلك من النصف الأخير من شعبان.
ومنهم من قال بالكراهة في حق من لم يكن يصوم من أوله شيئا قبل انتصافه، وأما من صام من أوله أو صامه كله فلا نهي، ولا حرج عليه بالنسبة له في صوم النصف الأخير أيضا.
تنبيه يشمل الاستثناء من الاستثناء بمعنى أنه يُستثنى مما ذُكر من كان عليه قضاء ما فات من صيام رمضان؛ فيجوز له أن يقضي ما عليه في شعبان من غير استثناء ولو في يوم الشك.
قال الشيخ خليل رحمه الله: “ووجب القضاء بالعدد بزمن أُبِيحَ صومه”؛ وقال شراحه: شمل يومَ الشك للإذن في صومه قضاء وتطوعا بدليل ما رواه الإمام مالك والشيخان عن عائشة -رضي الله عنها-: قالت: «كان يكون عليَّ الصوم من رمضان؛ فما أستطيع أن أقضيَ إلا في شعبان؛ وذلك لمكانِ رسولِ اللهﷺ».
الخلاصة النهائية بعد عرض هذه الآراء الفقهية التي تعمدت نقلها لأنصاف العويلميين الذين ليس لهم إلمام بالموضوع، فيُلزِمون الناس بعدم مشروعية الصيام بعد النصف من شعبان محذرين إياهم من مغبة مخالفة هدى النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي اختمر في ذهني بعد هذا البحث المضني هو أن صيام شعبان سنة؛ إلا يوم الشك وهو اليوم الثلاثون منه؛ فلا ينبغي البتة صومه حتى يُميز بين الفرض والنفل، هذا في حالة إذا لم يثبت هلال رمضان في اليوم التاسع والعشرين، ونظرا لاحتمال ذلك كان ترك صيام يومين قبل رمضان أولى.
أمَّا ما بعد منتصف شعبان، فيكره صومه للضعفاء حتى لا يتعبهم صيام رمضان، فيضطروا لرخصة الأكل، أما الأصحاء فلا حرج عليهم، وخصوصا منهم من بدأ الصيام من النصف الأول من شعبان؛ ويجوز من غير كراهة لمن كان عليه قضاء رمضان أن يصوم ولو يوم الشك.
والله أعلم وهو سبحانه الموفق للصواب. أكتفي بهذا القدر التوضيحي للمسألة تجنبا للإطالة، ورِفقا بالقراء تنويرا لهم بهذه القضية المثارة عبر السوشيل ميديا عمدا عند اقتراب صوم الشهر الفضيل؛ ومن لم يكفه ما كتبته، فليطالبني بالمراجع التي استقت منها هذه الانقداحات الفقهية وأنا جاهز للرد عليه بالحكمة والموعظة الحسنة دون تعصب مذهبي ما دام الأمر فيه فُسحة وسَعة تطوعية، وبه وجب الإعلام والسلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا