الدكتور إدريس قريش : كيف سيكون العالم بعد هذه الأزمة ؟و ما هي المحددات المؤطرة للعلاقات الدولية و لآلياتها الممارسة الدبلوماسية في عالم الغد؟
هي أسئلة حيوية و جوهرية تفرض نفسها بحدة في هذه الظرفية المأساوية التي نمر بها ،إن العالم يتم تسييره بتفاعل عناصر محددة و مؤطرة للآستراتيجية العالمية في إطار توازن سلطة القوة و سلطة المعرفة و سلطة المال و سلطة الإعلام و أي خلل يقع بين هذه السلط يؤدي حتما الى زلزال في المنظومة العالمية ، فالإصطدام الواقع أو الذي وقع في السنوات الأخيرة بين هذه السلط و خصوصا مع سلطة المال و طغيانها على الحياة العامة و تحولها إلى عقيدة حيث أن المال أصبح عقيدة على حساب القيم أي سلطة المعرفة في إطار الأحادية القطبية داخل هذه الموجة من العولمة التي جعلت العالم يخضع لملكوت المال أدى إلى هذه الأزمة الكارثة التي إن استطعنا التصدي لها و تجاوزها ستكون فرصة كبيرة لإنجاز و صياغة تقييمات جديدة على مختلف الأصعدة لإعادة ترتيب الأمو أووضع مسار الأمم على السكة الصحيحة و خلق مفهوم جديد للعلاقات الدولية تكون فيه السيادة للقيم المستمدة من المرجعية الإنسانية المشتركة التي تمتاز بالقدسية لكونها من وضع الخالق وذلك بإعادة بناء الأنسان كفريضة أساسية لكنها ضائعة و غائبة للأسف الشديد على سلوكنا إن الإستثمار في العنصر البشري يشكل أهم قوة باعتباره الرأسمال الحقيقي دون منازع و إعادة االإعتبار للفاعل السياسي الحامل للقيم باعتبار أن السياسة علم و لها قواعد و ليست تجارة و ليست بمزاد علني هذان الشرطان أساسيان جوهريان كما نقول باللاتينية sine qua non لإعادة بناء العلاقات الدولية و ألسنتها لأن العلاقات الدولية تستمد تغذيتها وقوتها من السلوك البشري كما أنهاا تتغير و تتطور نتيجة الإصطدامات و الأزمات الكبرى و ما نعيشه اليوم من مآسي هذا الفيروس إلاظاهرة محركة لتقلبات عميقة و جذرية تنهي حقبة العولمة السائدة في إطار القطبية الأحادية ليدشن العالم بعده حقبة جديدة في إطار تعدد القطبية و هي لحظة حارقة في التاريخ ستنتهي بإعادة هندسة النظام الدولي لفائدة ترسيخ منظومة القيم ، الواقع أن الرؤية التي أعتنقها و أنتمي اليها و أناضل من أجلها تنطلق من أننا نعيش في عالم يشكو من جراحات عديدة و عميقة وجوديا و اجتماعيا و بيئيا نعيش في عالم يمر بأزمات خطيرة و عميقة تهدد بخراب هذا الكون نتيجة تدهور منظومة القيم لفائدة تغذية النزوات الذاتية ،و في الحقيقة أنطلق دائما أن الأمم المتحدة تعيش تناقضات حادة ومهولة فهناك ميثاق أممي مقالي يسعى لبناء عالم قابل للحياة قوامه السلام و التضامن والوئام بالتأكيد على ذاتية الإنسان و الإعلاء من شأنه ، كحاضن أساسي و كبوابة حتمية للتعايش و الأمن و السلام و هناك في المقابل واقع محدق و مضطرب فلماذا هذا التناقض ؟ و لماذا بعد خمس و سبعين سنة من توقيع الميثاق الأممي يوم 26 يونيو 1945 بسان فرانسيسكو منذ ذلك اليوم لم يتم تفعيل هذه المبادئ و هذه القيم فأين يوجد الخلل ؟ إن الأمر إذا لا يتعلق بالميثاق أو بالقانون الدولي بقدر ما يتعلق بإرادة إرساء منظومة القيم بمفهومها الإيماني و هذا يؤكد أن الأمم المتحدة في حاجة ماسة إلى نساء و رجال الإيمان و تتزايد الحاجة بإلحاح إلى تلاف هذا الإخفاق عبر صياغة كونية للقيم كبديل واقعي حقيقي و شامل للواقع المهيمن و إقرار هذه المراقبة يمر بالضرورة و الالتزام بتفعيل الدبلوماسية الروحية كآلية جيواستراتيجية جديدة قادرة على حل الصراعات والنزاعات من خلال الاعتماد على القيم الروحية للشعوب عبر إيقاظ ضمير الإنسان، إن القيم كقواعد مؤسسة للمنظومة الأخلاقية المتكاملة تستمد قوتها من الإيمان ،هناك قيم بمفهومها الإيديولوجي هي قيم سامية و راقية لكنها تندثر باندثار الإيديولوجيا (الإتحاد السوفياتي نموذجا ) ، و القيم بمفهومها الروحي هي عبادة تتمركز في التعاون مع الله بحسن العبادة و المعاملة مع العباد ،و الكون بحسن الخلق و تتميز بالشمولية الأبدية كما أنها تفعل بأمر رباني أي أنها إلزامية لأن الخالق يربطها بالإيمان و كلما ترقى الإنسان في الايمان ترقى في القيم، و بالرجوع الى هذه الظرفية الصعبة أقول بأن الفيروس لم يشكل مفاجأة لا من حيث تداعياته و لا من حيث إفرازاته لمؤشرات إنهيار العولمة أولا لأن العالم وصل الى الحد لا يمكن أن يزيد أويتطور أكثر مما كان عليه ثانيا أن كل التقارير الوازنة كانت تحدث منذ الأزمة المالية 2008 على أن العالم مقبل على كارثة اقتصادية و ركود وإفلاس مالي زادت حدتها بعد أن جيء برئيس للدولة القطب من عالم المال لا علاقة له بالحقل السياسي حيث أن تقلده الحكم أدى إلى تحويل البلد القطبي إلى شركة و أدى إلى تسليع كل شيء العلاقات الإنسانية و الإرث الحضاري و القيم كما عمل على تشويه و تبخيس مؤسسات هذا البلد بما في ذلك مؤسسات البيت الأبيض التي لم نعد نسمع باسمها أي بيان كل البيانات تحولت إلا تغريدات شخصية للسيد الرئيس كما قام بتهميش و تهديم التحالفات الخارجية و تحويلها الى سوق لبيع التعاون و التضامن على حساب القيم و هذه الخيارات أدت بالتأكيد إلى تآكل القيادة القطبية للنظام الدولي و على نهاية العولمة . هذه العولمة التي تم تفعيلها بإفراغها من محتواها الحقيقي الذي تم تحديده في لقاء مالطا أيام 2 و3 دجنبر 1989 على متن باخرة ماكسي مووركي بين الرئيس الأمريكي جورج بوش و الأب والرئيس الأول و الأخير للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف حيث تمحور هذا اللقاء حول نهاية الحرب الباردة و حول البليد البديل الذي يمكن تفعيله في المنظومة الدولية حيث أن الرئيس بورش حدد مفهوم العولمة في عولمة الديمقراطية و حقوق الإنسان و الحكامة الجيدة و عولمة القيم و التي تحولت الى عولمة الأسواق و سطوة لغة المال بإعطائها للغني أجنحة كي يطير بها في عالم بلا حدود وما يحدد حدوده هو حسابه البنكي حيث أن خضوع العالم لملكوت المال قلب الموازين و تم التسليم بالقيم أي افراغ هذه العولمة من قوتها المحركة فانهارت و شلت اقتصاديات العالم وهو اعلان صريح عن نهاية عالم و ظهور عالم آخر ، بهندسة جديدة و بإعادة النظر في التكتلات الدولية والإقليمية بدا تقاعس الاتحاد الأوروبي عن التضامن في مواجهة تداعيات الأزمة و الانتقال إلى تعزيز دور الدولة القومية و ترسيخ الهوية أمام هذه الأجيال الجديد الحروب حيث أن الهوية في زمن العولمة تحولت الى معطى حاسم في مستوى العلاقات الدولية لرسم مستقبل جديد متعدد الأقطاب و الهويات ،عالم ما بعد أحادية القطبية كما يجب الإشارة الى أن بعض رجال السياسة الكبار البولي لوغ بدأوا اليوم يتحدثون عن تفكيك الولايات المتحدة بنفسها بعدما ضعف دور المصدر (واشنطن )و تقلصت هيبته ،صحيح أن هذا المعطى أو هذا الحكم كان متداولا في الثمانينات من القرن الماضي في عهد الاتحاد السوفياتي و في إطار الصراع الإيديولوجي الذي كان قائما بين الشرق و الغرب آنذاك ، إن هذه الأزمة أظهرت للعالم أنه في غياب القيم لا يمكن الحديث عن استقرار و أن عبودية المال ليس بخيار سليم و هي ظاهرة محركة للتقلبات التاريخية ان القيم هي سبيلنا لتحقيق الحياة المستقرة عبر تعاون دولي يقوم على التضامن و المصالح المشتركة في اعلان واضح و صريح لضرورة ألسنة العلاقات الدولية و تحويل هذا الفيروس إلى فرصة لقيام نظام دولي جديد أكثر عدلا يراعي المصلحة المشتركة بين الشعوب و يولي العناية للبعد الإنساني ،و هو نظام عال متعدد الأقطاب تسود فيه القيم الإنسانية الكونية المشتركة المستمدة من الصراط المستقيم و هو القاسم المشترك مع كافة العائلة الإنسانية ،الصراط المستقيم الذي نصبه الله لعباده على ألسنة رسله و جعله موصلا لعباده اليه و لا طريق لهم سواه كما هي مناسبة أغتنمها لأنه بالمجهودات الحثيثة التي قام بها المغرب لاتخاذه لإجراءات احترازية و وقائية و صحية و اقتصادية حمائية من أجل احتواء تداعيات الأزمة و السيطرة عليها أؤكد بالمناسبة أن المملكة تتوفر على كل العوامل لتحقيق إقلاع حقيقي وللتموقع بقوة بفضل الجهود المبذولة في عدة مبادرات رائدة يقودها صاحب الجلالة تهتم بالبعد الإنساني السامي في اطار الإجماع الراسخ عبر مضامين جاذبة و جميلة تحمل حلولا لأبرز المعاناة و هي الالتحام و التضامن و الاحتضان و هو تجسيد فعلي للثوابت التي تقوم عليها مملكتنا السعيدة منذ 14 قرنا بالإضافة إلى بنية تحتية متقدمة و مهيأة و قابلة لإقلاع اقتصادي و صناعي متكامل و هذا يشكل مصدر افتخارنا لهذا و عشقنا لانتمائنا لهذا الوطن العزيز .
الدكتور إدريس قريش.
دكتور دولة في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية.
وزير مفوض في التقاعد.
أستاذ زائر بجامعات وطنية وأجنبية.
عضو الفدرالية العالمية لتخليق العلاقات الدولية.
له عدة مؤلفات.