الجزائر: عندما تدار الأزمة بسياسة الكذب في الاقتصاد

لم يكن خبر شراء الديوان الجزائري للحبوب ما بين 500 و550 ألف طن من القمح الصلب في مناقصة دولية، كما نقلته وكالة رويترز عن متعاملين أوروبيين، خبراً تقنياً عابراً بقدر ما كان لحظة كاشفة لتناقض صارخ بين الخطاب الرسمي والواقع الاقتصادي. فالسعر الذي قارب 315 دولاراً للطن شاملاً الشحن لا يعكس فقط ضغط السوق الدولية، بل يعكس قبل ذلك عجز الإنتاج المحلي عن تلبية الحاجيات الأساسية، في وقت كانت فيه أعلى هرم السلطة يعلن بثقة اقتراب تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب مع نهاية سنة 2025.
المسألة هنا لا تتعلق بالاستيراد في حد ذاته، لأن الدول لا تُدان بشرائها من السوق العالمية، بل تُدان حين تكذب على شعوبها بشأن قدرتها الإنتاجية. الاكتفاء الذاتي ليس شعاراً سياسياً ولا جملة للاستهلاك الإعلامي، بل نتيجة مسار طويل من الإصلاحات العميقة، تبدأ من الأرض ولا تنتهي عند المخازن. أما حين يُستبدل التخطيط بالخطابة، والمحاسبة بالتبرير، فإن أول ما يسقط هو صدقية الدولة، قبل أن يسقط محصول القمح.
شراء أكثر من نصف مليون طن دفعة واحدة يكشف أن الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك ليست ظرفية ولا مرتبطة بعوامل مناخية عابرة، بل بنيوية. ولو كان الاكتفاء الذاتي قريباً كما قيل، لما كانت الحاجة إلى هذه الكميات الضخمة، ولا إلى التعاقد العاجل مع السوق الدولية. الادعاء بأن الأمر يدخل في إطار الاحتياط الاستراتيجي لا يصمد أمام منطق الأرقام، لأن الاحتياط يُبنى من فائض، لا من عجز مُزمن.
الخطير في هذا النموذج ليس فقط استنزاف العملة الصعبة، بل ترسيخ ثقافة إدارة الاقتصاد بالكذب. فحين تُقدم السلطة أرقاماً غير قابلة للتحقق، وتغيب الإحصائيات المستقلة، ويتحول الإنجاز إلى مادة دعائية، يصبح الاقتصاد رهينة للإنكار. الأسواق الدولية لا تصدق الخطب، بل تقرأ الطلبات، وحين ترى دولة تشتري بهذا الحجم، فإنها تفهم الرسالة جيداً: بلد يعاني اختلالاً في أمنه الغذائي ويحاول تغطيته بالصمت لا بالإصلاح.
السيادة الغذائية لا تُبنى بالتصريحات، بل بالاعتراف بالفشل حين يقع، وبالشجاعة السياسية لتصحيحه. أما تحويل الإخفاق إلى نصر لغوي، فذلك لا يؤجل الأزمة إلا ليجعلها أعمق وأكثر كلفة. في النهاية، القمح لا يجامل السلطة، ولا ينتظر البيانات الرسمية، وحين يُدار الاقتصاد بسياسة الكذب، يكون القمح أول من يفضحها، حتى قبل أن يشعر بها المواطن على مائدة خبزه.



