التقيته صدفة أثناء تجوالي بإحدى الأسواق الممتازة بالمدينة. ولما رآني، أسمعني قهقهته المعهودة ثم سألني في استغراب:
ـ من ؟ ربيع..؟! أية ريح أتت بك إلى هنا؟
أجبته ساخرا: ـ نفس الريح التي جرفتك يا عبد المجيد!
وبم أننا لم نر بعضنا منذ مدّة، تعانقنا بحرارة، وفي وقت وجيز كنّا قد أتينا على ذكر القديم والجديد مما عشناه معا! طلب مني عدم مغادرة المدينة، والبقاء لتناول الغذاء معه في بيته. في البداية تمنعت قليلا؛ ونتيجة لعدم قدرتي على الصمود أمام إلحاحه وقدرته العجيبة على الإقناع، انتهيت إلى القبول.
غادرنا السوق مسرعين وركبنا سيارته وقصدنا المنزل. في الحقيقة، كان في غاية الكرم، وأثناء تناولنا الطعام قال لي:
ـ أنت اليوم ضيفي.. فتنازل لي عن نفسك ولا تعارضني فيما سأطلبه منك! الآن أنا ذاهب إلى العمل، وستذهب معي؛ هذه فرصة لا تعوض لتكتشف المدرسة التي حدثتك عنها، وبالمناسبة، أنت أيضا تغير الجو وترتاح من كدر الشغل الذي لا ينتهي… فماذا قلت؟
ـ لا أستطيع.. وكما تعلم.. لقد تركت ورائي أشغالا كثيرة..
أصر علي بطريقته المعتادة، وما بقي لي إلا أن أوافق.
ركبنا السيارة وانطلقنا في اتجاه المدرسة الواقعة في أحد الدواوير بضواحي المدينة. ونحن على الطريق، تحدثنا في عدة مواضيع، منها ما هو مهم وما هو هامشي. وتراءى لنا من بعيد المدشر كزريبة نحل تجمعت خلياتها بشكل عشوائي فوق تلة، فقال لي:
ـ بذلك المدشر توجد المدرسة.
انطلقت السيارة يسارا عابرة الجسر نحو العدوة الأخرى، وتوغلنا في طريق غير مرصوفة، فشاعت في أنفي رائحة عفن قوية كالتي تنبعث من كهف ممتلئ بالجيف، استقرت بخياشيمي وحلفت يمينا ألا تطلع منها. التفت إليه باسما ثم قلت في حياء مصطنع:
ـ ويحك يا عبد المجيد..! أفعلتها دون أن تفتح زجاج النافذة على الأقل؟!
أجابني في قليل من الإحراج والسخرية:
ـ كان يجدر بك أن تطلب مني إغلاق الزجاج بدل فتحه، لأنه مفتوح مسبقا، لكنك هرمت وخرفت ولم تعد ترى شيئا! فالرائحة تنبعث من النهر لأن ماءه مختلط بالواد الحار للمدينة.
استغربت كثيرا ثم قلت في نفسي:
ـ أيعقل أن يقطن أناس وفي عصرنا هذا، وسط هذا العفن وهذه الروائح الكريهة؟! على هذا النحو يجب أن يبنى بجانبهم مستشفى خاص بهم. فبدون شك أن حمى المستنقعات وأمراض أخرى سوف لن تجد لها موطنا أجمل وأنسب من هذا الموطن!
ومن كثرة الحديث والتندر، لم نشعر بأنفسنا إلا والسيارة تتوقف بباب المدرسة. لم أستطع أن أستطلع الأمر لأنها كانت محاطة بسور. وبعد هنيهة، فتح الحارس الباب وتوغلت السيارة في الداخل، فتراءت لي بعض الأقسام معلقة في الأعلى! لأن المدرسة بنيت فوق أرضية مائلة جدا. وفور رؤيتنا، بادر التلاميذ إلى الاصطفاف بأبواب الأقسام، وبإذن من الأساتذة، دخلوا وأخذ كل واحد منهم مكانه. دخلنا أيضا، وقدم لي عبد المجيد كرسيه الخاص، فجلست مكانه. شرع في إلقاء الدرس في أريحية وانشراح، في حين كان التلاميذ مرتبكين قلقين بعض الشيء. تفطنت لما كان بهم، ونطقت لأزيل عن كاهلهم العبء:
ـ لا تقلقوا يا أبنائي..! أنا لست مفتشا.. ولا مديرا.. أنا مجرد صديق لأستاذكم وضيف عندكم!
لقد هدأوا وبدأ على محياهم الارتياح. كانوا في الصف الخامس، والدرس في الشكل. كتب الأستاذ نصا قصيرا على السبورة، ثم طلب منهم شكله، وهنا سأكتشف بأن مستواهم التعليمي لم يكن لا جيدا ولا رديئا؛ ولكنهم كانوا في غاية اللطف والأدب والتعطش لاصطياد المعلومة. والشيء الذي لفت انتباهي، هو كيفية تصرفهم داخل الفصل. كانوا متحررين طليقين أكثر فأكثر، بحيث كلما طلب الأستاذ من أحدهم أن يتفضل إلى السبورة، يتقدم ويجيب عن الأسئلة بدون خوف أو ارتباك حتى لو كانت الإجابة خاطئة. وما زاد في شد انتباهي، هو تصرف بدا لي غريبا بعض الشيء، إذ بين الفينة والأخرى، ينهض أحدهم دون ترخيص من أستاذه ثم يتوجه نحو مجلة حائطية ويقوم بإلصاق ورقة يكون بياضها قد اسود كله أو جزء منه، ثم يعود إلى مكانه في هدوء كأن شيئا لم يكن. غلبني الفضول، فتقدمت نحو تلك المجلة لأستطلع الأمر، فإذا بي أتفاجأ بعثوري على إبداعات جميلة تعبر عن أحلام صغيرة وبريئة، في دنيا كبيرة وغريبة! تفتح قلبي وانشرح صدري وامتلأ سعادة وأملا في المستقبل وشباب المستقبل، وحينئذ تأكدت أن الإبداع ليس مقيدا لا بتاريخ ولا بجغرافيا؛ ولكنه يوجد أينما وجد الإنسان. المهم هو من يتفطن له ويحسن استثماره!
وعند انتهاء الحصة، خرج التلاميذ وخرجنا بعدهم. أخذني الأستاذ عبد المجيد في جولة قصيرة في حديقة المدرسة، وانطلق يحدثني عن الأشجار والأغراس التي غرست ونمت بفضله وبفضل زملائه المجدين والمحبين للطبيعة… وبدوري عبرت له عن سعادتي وإعجابي بذلك الإنجاز الراقي، وبؤلائك التلاميذ الظرفاء المحبين للدراسة ولطلب العلم؛ وبذلك كنت قد فتحت له الباب على مصراعيه لينطلق فيحكي قصة مؤثرة:
” ـ هؤلاء التلاميذ لم يكونوا على هذا القدر المتوسط من التعليم. لقد كانوا ضعافا جدا قبل وصولهم إلي.. فالعبد لله، بمعية بعض الزملاء، بذلنا مجهودات جبارة كي يصيروا إلى المستوى الذي وجدتهم عليه. إن بعض المدرسين، ولحسن الحظ أنهم انتقلوا من هنا، كانوا يجلسون على الرغي بالساعات وهم يشربون الشاي، ويأكلون الفطائر بالسمن البلدي؛ بينما الأطفال محبوسون داخل الفصول منشغلون باللهو وإهدار الوقت..” ساد الصمت برهة، فسألته مستغربا:
ـ ومن أين لهم بالشاي وكل الأكل؟!
ـ من عند أمهات التلاميذ.
ـ أمهات التلاميذ يكرمن المدرسين كي لا يقوموا بتدريس أبنائهن جيدا؟!
ضحك عبد المجيد حتى دمعت عيناه ثم قال بصوت مرتفع:
ـ إيه..! إوا كيجاتك هادي؟!
قلت ساخرا:
ـ صحيح صدق من قال: ” أنا بالشحمة لفمو وهو بالعود لعيني”.