و أنت تجدد صلتك بالسيرة النبوية باحثا عما يكتنف أحداثها الكبرى من دقائق و تفاصيل , يستحوذ على عقلك وقلبك انطباع , سرعان ما يتحول إلى قناعة راسخة , بأنك لست أمام كتابة تاريخية و توثيق لأحداث مضت , بل أمام مرآة عاكسة لما يضج به واقعك اليومي من فواجع و مآسي , خاصة تلك التي يغذيها الخبث الإنساني .
في خبر أبرهة الحبشي و حملته الخرقاء لهدم الكعبة , يطالعنا نموذج للعربي الخائن , و للتحاسد القبلي الذي لا يتورع عن تحطيم المقدس للانفراد بأسباب القوة , سياسية كانت أو اقتصادية . و الخبر , كما أورده ابن هشام في السيرة , مفاده أن جيش أبرهة لما بلغ مدينة الطائف خرجت إليه ثقيف بزعامة مسعود بن معتب يعلنون ولاءهم . وغالوا في استعطاف أبرهة فقالوا : أيها الملك , إنما نحن عبيدك سامعون مطيعون , ليس عندنا لك خلاف و ليس بيتنا هذا الذي تريد , يعنون بيت اللات , إنما تريد البيت الذي بمكة , ونحن نبعث معك من يدلك عليه ” وكان هذا الدليل هو أبو رغال الذي قادهم إلى المغمس على مشارف مكة , وهناك وافت المنية أبا رغال , وسخط العرب عليه فاعتادوا رجم قبره !
قيل في تبرير هذا الموقف بأن مرده للتنافس التجاري الذي كان محتدما بين قريش و ثقيف , و أن هذه الأخيرة كانت تحسد قريشا على مكانتها الاعتبارية في وجدان العرب قاطبة , وعلى نفوذها السياسي و الاقتصادي . بل إنها عمدت إلى اتخاذ بيت لأعظم أصنامها , وهو اللات , شبيه ببناء الكعبة !
و الحق أن الخيانة خيانات , وأن المجتمع العربي آنذاك لم يكن نسيجه الأخلاقي متينا إلى الحد الذي تتورع فيه النفوس عن السطو و انتزاع ما في يد الضعفاء بالقوة أو الحيلة . شاهدنا على ذلك ما تمتع به المصطفى صلى الله عليه وسلم من سجايا و شمائل جعلته محط ثقة ومستودع لأمانات القرشيين و غيرهم حتى لٌقب بالصادق الأمين . إلا أن للخيانة حدا لا يحتمل أي مجتمع إنساني أن تتجاوزه , لذا لم يجد العرب , وهم الغارقون آنذاك في وحل الوثنية و الهبوط الأخلاقي , للتعبير عن سخطهم على خيانة ثقيف سوى أن يرجموا قبر دليلها المشؤوم !
و اليوم يطل علينا أبو رغال بسيرته البشعة ليحل في ذوات تحابي و تهادن أعداءها بالتطوع لهدم أسس دينها , وردم ثوابتها و قيمها , و تفتيت مقومات هويتها وحضارتها .
يطل علينا في صورة المثقف حين يتخلى عن دوره النبيل و رسالته القيمية التي زعم أنه منذور لأجلها, فيسحب روحه الناقدة , وقلمه المسائل و المجادل من المعترك ليغازل الانحلال و الاستلاب و قبضة الفساد التي تخنق المجتمع المعاصر . نعم , يصبح “رغاليا” حين يعلن اليوم دون مواربة بأن لا محيد عن طرح عباءة الدين و القيم لعبور الفجوة الحضارية التي تفصلنا عن الآخر , هناك ! وحين ينحاز لمصالحه النفعية فيزكي الأوضاع الشائهة , و يغذي الاحتراب الفكري الحاصل بآراء ومواقف تلتبس معها الأفهام و يُمسي الحليم حيران . فلاعجب أن تكون خيانات بعض المثقفين سببا لجمود الثقافة العربية و انكفائها على نفسها بعيدا عن التحولات العميقة التي يشهدها العالم , هذه الثقافة التي يشبهها اليوم المفكر العربي الدكتور سيار الجميل برغوة متحركة فوق المياه الراكدة , سِمتها :
بطء حركة البحث العلمي , و ضعف الترجمة , و جامعات تمنح الشهادات و الترقيات كما تمنح الحلوى للأطفال !
و يطل علينا أبو رغال في صورة السياسي حين يُحيل أفق انتظار المواطن بؤسا و يأسا و ضبابا يعيق الفهم و السير . و حين تعوزه الحكمة لتفادي أخطار سياسية فلا يتورع عن إشعال الحرائق في البلد !
إن من يتفحص مفردات الخطاب السياسي الرائج اليوم في بلداننا الإسلامية , و يستعرض صيغ التدافع بين الفرقاء يُدرك حجم الهبوط الأخلاقي و ارتخاص القول السياسي ! فلا مباديء صائنة عن الزيغ , و لا قيم مؤطرة للعبة , و إنما سعي للتواطؤ و الصدام و إفراغ المحاولات الجادة للقلة المُصلحة من بلوغ الهدف الذي يُفترض أن السياسة ترمي إليه , وهو خدمة الإنسان و إدارة المجتمع. بل إن بعض الساسة ممن أعياهم نصب الكمائن لم يخفوا حماسهم لدعوة أبرهة الجديد كي يتدخل في شؤون بلدانهم , و يمنحهم بذلك شرف اصطحابهم أدلاء في مسيرة الهدم الحضاري !
تنتعش “الرغالية ” إذن في عالم السياسة حين تتوارى القيم و يخبو أوارها , فلا ينفع ذكاء أوثقافة للتقليل من حجم الخسائر . يقول غوستاف لوبون ” يجب ألا ننسى أن حدة الذكاء مهما كثرت والثقافة مهما سمت والرشاقة مهما علت لا تسد فراغا يقع في صفات الخلق الأساسية , و الصفات الخلقية التي تقوم عليها سيادة الأمة هي ضبط النفس و الرزانة و تحمل التبعات و الميل إلى الاتحاد و الحزم و الشجاعة , فإذا ضعفت هذه الصفات عجزت الأمة عن سياسة نفسها وعن منع الأمم الأجنبية عن التدخل في شؤونها ” (1)
و يطل علينا أبو رغال في صورة الإعلامي حين يسحبه بريق الشهرة بعيدا عما تُلزمه به أخلاق مهنته من تجرد وموضوعية وولاء للحقيقة . فيصبح ديدنه خلط الأوراق و التشكيك في النوايا و المبادرات , وتفويت الضمير المهني لمن يدفع أكثر . إن المؤسسة الإعلامية تتقلد اليوم مكانة شبه مقدسة لأن الإعلام لا يقوم بمجرد نقل رسائل لكنه يسهم بشكل جوهري في تكوين الظروف الاجتماعية و الأخلاقية و الوجدانية لتلقي الرسائل (2) وهنا مكمن الخطورة إذا ما انتعشت الرغالية في نفوس القائمين على الصرح الإعلامي . ولعل الأحداث الجسام التي واكبت الربيع العربي قد حررت أذهان الكثيرين من أكذوبة الحيادية و البعد التحرري للإعلام لنقف , وبشكل مأساوي , شهودا على واجهة للخيانة و التدليس .
و يطل علينا أبو رغال في صورة العسكري , و الموظف , و الفنان , و رجل الأعمال ليرسم لوحة قاتمة لما يؤول إليه المجتمع الإنساني حين ينضب في النفوس معين القيم .
إن الخيانة متوطنة في المجتمع الإنساني منذ الأزل , و قصص اختراقها لنسيج القيم السائدة تملأ رفوف المكتبات . غير أنها لا تكتسي بُعدا ناسفا إلا حين يستمرئها المجتمع , فترتخي قبضة الحماية القانونية للنظام الأخلاقي , و يصبح “أبورغال” عنوان حركة حقوق جديدة !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – غوستاف لوبون : روح السياسة . دار كلمات عربية للترجمة و النشر . القاهرة 2012 . ص 248
2- ستيفن كولمان – كارين روس : الإعلام و الجمهور . دار الفجر للنشر . القاهرة 2012 ص 81