المغرب

رمضانيات صفروبريس..الدكتور عبد الإله سيار يكتب : "الأوبئة والطواعين، مشاهدُ من الماضي والحاضر"

playstore

إلى حدودِ مطلعِ العامِ الجاري كان أغلبُ الناس يعتقدون أن الطواعينَ والأوبئةَ من أحاديثِ القرونِ الوسطى، فقد أوهمَنا التقدمُ العلميُّ للبشرية بأن الإنسان أصْبَحَ سيدًا للأرض قادراً عليها. وأنا شخصياً أثناء تصفُّحي لكتُب الترُّاثِ كان يَمُرُّ بي كثيرٌ من النصوص والأخبار المتعلقةِ بهذا الموضوع، وقليلاً ما كنتُ أتوقفُ عندها. إلى أن أتى أمرُ الله بهذا الوباء الذي عَمَّ أقطارَ الأرض وأوقفَ حركَتها. وقد كانت فترةُ الحجْرِ الصحيِّ بالنسبة لي فرصةً للعودةِ إلى ما تَيَسَّر من المصادرِ العربيةِ القديمةِ للمقارنةِ بين ما احتفظت به من إشاراتٍ تتعلقُ بالطواعينِ والأوبئةِ وبين تجربَتِنا مع الوباءِ الحالي.

وقبْلَ الشُّروع في عرضِ نتائجِ تلك المقارنةِ أشيرُ إلى أن هذه المحاولةَ هي من وحْيِ الحجرِ الصحيِّ، ولذلك فهي لا تدَّعي الشمولَ والحصرَ. كما أن هذه المقارنةَ لن تقِفُ عند الخصائصِ الطبيةِ للوباء، لأن الأوبئةَ التي أعجَزَتِ القدماءَ وتسبَّبَت في خسائرَ ديموغرافيةٍ فادحةٍ أصبحَتِ الآنَ سهلةَ العلاج. أما ما سأُركزُ عليه فهو المُشْتَرك من حيثُ التحدياتُ التي يطرحُها الوباءُ على المجتمعِ والدولةِ والأفراد، وكيفيةُ تفاعُلِهِم معه.

pellencmaroc

1. تسمية الوباء

نستعملُ في وصفِ المشكلةِ الصحيةِ التي يُعاني منها العالمُ اليومَ مصطلحَيْن هما، “الوباءُ” و”الجائحةُ”. ويُعَرَّفُ “الوباءُ”[1] حاليا بأنه المرضُ الذي ينتشرُ بسرعةٍ، ويؤثِّر على عددٍ كبيرٍ من الأفرادِ في وقتٍ واحدٍ على مستوى مجتمع محَلِّي، أو منطقةٍ جغرافيةٍ واحدةٍ، وفي بعض الحالات يمتدُّ ليشملَ بعضَ البلدان. وتزيدُ “الجائحةُ” على “الوباء” بكونِها تُؤَثر على نطاقٍ جغرافيٍّ أوْسع، كأن تصيبَ بلداً بأكملهِ أو الكوكَبَ بأسْرِه.

والقدماءُ استعملوا أيضا مصطلحَ “وباء”. لكن معاناتهم كانت مع وباء بعَيْنِهِ هو “الطاعون”[2]. لذلك كثُر في كلامِهم حتى الْتَبس بالوباء. قَالَ الْخَلِيل: الوباءُ ‌الطَّاعُون. وَقَالَ غَيره: كلُّ مرضٍ يشْتَملُ الْكثيرَ من النَّاس فِي جِهَة من الْجِهَات، فَهُوَ طاعون”[3].

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَصْلُ ‌الطَّاعُونِ الْقُرُوحُ الْخَارِجَةُ فِي الْجَسَدِ، وَالْوَبَاءُ عُمُومُ الْأَمْرَاضِ. فَسُمِّيَتْ طَاعُونًا لِشَبَهِهَا بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَكُلُّ طَاعُونٍ وَبَاءٌ وَلَيْسَ كُلُّ وَبَاءٍ طَاعُونًا.

ودون الدخول في أعراض الطواعين القديمة، أشير إلى أن أوَّلَ مُشْتَرَكٍ بينها وبين ما نعيشُه حالياً هو حالةُ العجْزِ أمامها. قال ابنُ حجر الهيتمي “وَهَذَا ‌الطَّاعُونُ قَدْ أَعْيَا الْأَطِبَّاءَ دَوَاؤُهُ حَتَّى سَلَّمَ حُذَّاقُهُمْ أَنَّهُ لَا دَوَاءَ لَهُ إلَّا الَّذِي خَلَقَهُ وَقَدَّرَهُ”[4]. وهذا يُذَكِّرُنا بما نسمعه يوميا على ألسنةِ الأطباءِ والمختصين من صُعوبة إيجادِ لقاحٍ أو دواءٍ لفيروس كورونا.

من المشترك أيضا هو إطلاق أسماء خاصة على بعض الطواعين مثلما يفْعلُ العلماءُ حاليا حين يعَرِّفون الوباء باسم الفيروسِ المتسبِّبِ فيه. لكن القدماء لجهلهم آنذاك بالجراثيم والفيروسات كانوا أحيانا يُسَمُّون الوباء بالمنطقة التي ظهر بها أولاً، مِثْلَ طَاعُون عِموَاسَ نسبةً إِلى بلدةٍ صغيرةٍ، يقال لها: عِمَواس، وهي: بين القدس، والرَّملة. أو يعرفونه بأوَّلِ أو أشْهَرِ من مات به، مثل طَاعُونِ عَدِيِّ بْنِ أَرَطْأَةَ وطَاعُونِ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ وطَاعُونِ غُرَابٍ، وَغُرَابٌ رَجُلٌ. وقد يعرِّفُونه بالفِئة الأكثرِ تضرُّراً منه. مثل طَاعُونِ الْفَتَيَاتِ لِأَنَّهُ بَدَأَ فِي العذارى والجواري، وطَاعُونِ الْأَشْرَافِ لِمَا مَاتَ فِيهِ مِنَ الْأَشْرَافِ. أما الجوائحُ فكانوا يُطْلقون عليها اسمَ “الطاعونِ الجارِفِ” أو “الطاعونِ الأعظمِ” أو “الطاعون العامِ”.

2. أسباب الوباء

تختلفُ التعليلات الحديثة للوباء بين من يربطُها بالطَّفْراتِ الفيروسيةِ، ومن يرجعُها إلى تجاوُزاتِ البشَر، أحياناً على المستوى البيئي، وأحياناً على المستوى التكنولوجي (5G)، وأحياناً على المستوى الغذائي (أكل لحوم بعض الحيوانات في الصين). وأحياناً على المستوى الديني.

أما في الثقافةِ العربيةِ القديمة، فأول تفسيرٍ نجدُه كان عند الجاهليين وهو أصل تسمية “الطاعون”، إذ كانت “الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ ‌الطَّاعُونَ طَعْنٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَتُسَمِّيهِ أَيْضًا رِمَاحَ الْجِنِّ”[5]

وهناك تعليلاتٌ أخرى، بعضُها ربَطَ الطاعونَ بالعقابِ الإلهيِّ نتيجةَ أفعالِ البشَرِ. وعلى عكسِ ذلك هناك من جعلهُ رحمةً من الله، واعتبرَ الموتَ به شهادةً. وهناك من ربطَهُ بحرَكَةِ النُّجُومِ وكثرة الشُّهُب. والأقربُ إلى العِلْمية بعضُ التعليلات التي ربطَت الطاعونَ بكثرةِ المطرِ ورُكُودِ الماءِ وفسادِ الهواء.

ومن التعليلات الذي تدخُلُ في إطار المشتَرَك أو المشابِهِ لما نجِدُه اليوم. تعليلٌ حَمَّل المسؤولية لمجتمع أو حضارةٍ بعينها، مثلما حدَث مؤخَّراً مع المجتمع الصيني التي اتَّهَمَتْهُ بعضُ الأوساط بالتسبُّبِ في الوباء بأكل الخفافيشِ وغيرها من الحيواناتِ الناقِلَةِ للفيروس. فمِثْلُ هذا التفسير الذي يحمِّلُ المسؤولية للآخر وجدْتُه عند القلقشندي في حَقِّ أهل روما:

قال: وأهل رُومِية أجْبَنُ خلْقِ الله تعالى، ومن سُنَّتِهم أنهم لا يَدْفِنون موتاهم، وإنما يُدخِلونهم في مغائر ويتركونهم فيها، فيَسْتَوْبِيءُ هواؤُهم ويقعُ الذّبابُ على الموتى، ثم يقعُ على ثِمارِهم فيُفسدُها، ولذلك هُم أكثرُ بلادِ الله تعالى طواعين”[6].

ومن التعليلات الطريفة التي لا أريد أن أُفَوِّتها في هذا الباب تعليلٌ دينيٌ يندرجُ ضمن التفسيراتِ التي تربطُ بين الوباءِ وأعمالِ البشَر. لكن ليس كلَّ البشرِ، وإنما جِنْسُ النساءِ تحديداً. وكان الحلُ المقترَحُ هو فرضُ الحَجْرِ على النساءِ دون غيرهِن. وفي مَشْهدٍ مُشابهٍ تقريباً لما نراه اليومَ، نَزَلَتِ السلطاتُ المحليةُ إلى الشوارعِ لفرض “الحجْرِ النِّسْوي” بأقْسَى أساليبِ الرَّدْعِ أملاً في ارتفاعِ الوباءِ. والنتيجةُ كانت هي وُقوفُ حالِ التُّجار، لأن النساءَ -فيما يبدو- هُنَّ في كل الأزمانِ والمجتمعاتِ عَصَبُ التجارةِ، نظراً لدورهن في تأمين مُسْتلزَمات بُيُوتهنَّ، ونظراً لأنهُنَّ بطَبْعِهِن مُغْرماتٌ بالتَّبَضُّع. وقد وقعت النازلةُ المعنية هنا بمصرَ في منتصفِ القرنِ التاسعِ الهجريِّ وتحديدًا سنة 840هـ. وعنها قال المقريزي:

واتفق أنَّ السُّلْطَانَ لما كثُر الوباء قَلِقَ من مداخلة الْوَهْم لَهُ، فَسَأَلَ من حضَرَ من الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء عَن الذُّنُوب التي إِذا ارتكبها النَّاس عاقبهم الله بالطاعون. فَقَالَ لَهُ بعض الْجَمَاعَة: إِن الزِّنا إِذا فَشَا فِي النَّاس، ظهَر فيهم ‌الطَّاعُون، وَأَنَّ النِّسَاء يَتَزيَّن ويمشِين فِي الطرقات لَيْلًا وَنَهَارًا فِي الْأَسْوَاق. فَأَشَارَ آخر أَن الْمصلحَةَ منعُ النِّسَاء من المشْي فِي الْأَسْوَاق. ونازعَه آخر فَقَالَ: لَا يُمْنَع إِلَّا المتبرجات، وَأما الْعَجَائِزُ وَمن لَيْسَ لَهَا من يقُومُ بأمْرِها لَا تُمنع من تَعاطِي حَاجَتِها. وجَرَوا فِي ذَلِك على عَادَتهم فِي مُعَارضَة بَعضهم بَعْضًا. فَمَال السُّلْطَان إِلَى مَنْعِهنَّ من الْخُرُوج إِلَى الطُّرُقات مُطلقًا ظنًّا مِنْهُ أَن بِمَنعهن يَرْتَفعُ الوباءُ. وَأمرَ باجتماعِهِم عِنْده من الْغَد. فَاجْتمعُوا فِي يَوْم الْخَمِيس، واتَّفقوا على مَا مَالَ إِلَيْهِ السُّلْطَان. فْنُودِيَ بِالْقَاهِرَةِ ومصرَ وظواهرهما. بِمَنْع جَمِيع النِّسَاءِ بأَسْرِهن من الْخُرُوج من بُيُوتهنَّ، وَألا تَمُرَّ امرأةٌ فِي شَارِعٍ وَلَا سوقٍ البَتَّة. وتَهَدَّدَ من خرجَتْ من بَيتهَا بِالْقَتْلِ. فَامْتنعَ عَامةُ النِّسَاء؛ فَتَيَاتِهِنَّ وعجائزِهِنَّ وإمائهِنَّ من الْخُرُوج إِلَى الطُّرُقات. وَأخَذَ واليُ الْقَاهِرَة وَبعضُ الْحجاب فِي تتبُّعِ الطُّرقات، وَضَرْبِ مَن وجَدُوا من النِّسَاء. وأكَّدُوا من الْغَد يَوْمِ الْجُمُعَة فِي مَنعِهنَّ. وتشَدَّدُوا فِي الرَّدْع والتهْديدِ. فَلم تُرَ امرأة فِي شيء من الطُّرقات. فَنزل بعِدَّةٍ من الأراملِ وربَّاتِ الصَّنَائِع ضَيقٌ وضَررٌ شَدِيد. وَمَعَ ذَلِك فتعَطَّلَ بيعُ كثيرٍ من البضائعِ وَالثيَابِ والعِطْرِ. فازداد النَّاسُ وقُوفَ حَالٍ، وكسادَ معايشَ، وتَعَطُّلَ أسواقٍ، وَقلةَ مكاسبَ”[7].

3. الوقاية من الوباء

ينقسم المجتمع المغربي حاليا بين من يأخذُ بالأسبابِ في التَّوَقِّي من الوباء، فيحرصُ على اتباعِ الاحتياطاتِ الصِّحِّيةِ اللازمة، وبين من يتهاوَنُ في ذلك، إما جَهْلاً أو اعْتِقاداً في القدَر.  والشيء ذاتُه كان عند القدماء، مع اختلافٍ في النسبةِ. بحيثُ كان عنْدَهُم السَّوادُ الأعظمُ من النوعِ الثاني. لذلك كانت الأوبئةُ تخلِّفُ خسائرَ بشريةً فادحةً. أما النوعُ الأولُ فكان قديماً يكادُ ينحصِرُ في بعضِ الفئاتِ المسْتنيرة من العُلماءِ وأولي الأمرِ.

وأوَّلُ أنواعِ الوقايةِ التي لجأ إليها القدماءُ الحجْرُ الصحيُّ. قال البلاذري:

 

“كان الخلفاءُ وأبناءُ الخلفاءِ من بني أمية يَتَبَدَّون ويهرُبون من ‌الطاعون، فينزلون البَرِّيةَ خارجاً عن الناس، فلما أراد هشام أن يترُكَ الرُّصافة قيل له: لا تخرُجَن فإن الخلفاءَ لا يُطْعَنون، ولم نَرَ خليفةً قَطُّ طُعِنَ. فقال: أبي تريدون أن تُجَرِّبوا!؟”[8].

وهذا الوليدُ بنُ عبد الملك قد “قيل له وقد فرَّ من ‌الطاعون: إن الله يقول: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَو الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلا قَلِيلًا}[9]. فقال: وذاك القليلُ يُطْلَبُ”[10].

ولكي يُؤدي الحجْرُ الصِّحيُّ وظيفتَهُ ينبغي أن يُصْطَبَرَ عليه إلى أن يختفيَ الوباءُ تماما. لأن مَنْ تعَجَّل في رفْعِهِ وجدَ الداءَ ينتظرُه عند بابِ البيت.  قال ابن حجر:

كان محمد بن أيوب بن سعيد بن علوي، الحسباني الأصل الدمشقي الشافعي “يَنْهَى أصحابَه عن دخولِ الحَمَّام أيامَ ‌الطاعون. فقَدَّر أن ‌الطاعونَ قدِ ارتفعَ أو كاد، فدخَلَ هو الحمامَ، فخرجَ فطُعِنَ عن قُرْب، فمات”[11].

“وأبْلَغُ من هذا أنّ العدل أبا الحسن علي العش – رحمه الله تعالى – كان أغْلَقَ بابه، وقَطَعَ الدّاخلَ والخارجَ، زعماً أنّ الهواءَ يَفْسُدُ بالمجاورة، فيدْفَعُ الفسادَ بتغليقِ الأبوابِ وقطْعِ المخالطةِ. فلمّا فَرَغَ الطّاعونُ واطْمَأنّ وفَتَحَ بابه، ودخلَ وخرجَ، أُصِيبَ في جوْفِه. فأقامَ ثلاثةَ أيام، ثمّ انتقل إلى رحمة الله تعالى. فكان آخر من أُصيب بالطّاعون”[12].

وقال الصفدي عن القَاضِي شهَاب الدّين بنِ فضْلِ الله: “لما وَقع ‌الطَّاعُون بِدِمَشْق سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة، قَلِقَ وهَمَعَ وزَمِعَ، وتَطايَرَ كثيراً، وراعَى الْقَوَاعِدَ الطبيةَ، وانْجَمَع عَن النَّاس وانْعَزَل. وعزَم على الْحَجِّ. ثمَّ إنّه بَطَّل ذَلِك، وَتوجَّه بِزَوْجَتِهِ إِلَى الْقُدْس الشريفِ وولدَيه. وصامُوا هُنَاكَ رَمَضَان. فَمَاتَتْ زَوجتُه هُنَاكَ ودفَنَها بالقُدس فِي شهر رَمَضَان. وَحضَر إِلَى دمشق وَهُوَ طَائِرُ الْعقْلِ. فَيومَ وُصُولِه بَرُدَ وَحصَلَ لَهُ حُمَّى، وَتُوفِّي رَحمَه الله يَوْم عَرَفَة سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة “[13].

وبالإضافة إلى الحجْرِ الصحِّيِّ نلاحظُ أن النصَّ السابقَ تضمَّنَ عبارة “القواعد الطبية” وهو دليلٌ على تَداوُلِ القدماءِ لتعليماتٍ طبيةٍ خاصَّةٍ بالوباءِ، يُمْكنُ أن نلخِّصَها في الحِمْيةِ والنَّظافةِ والرياضةِ. وهي تعليماتٌ لا تَبْعُدُ كثيرًا عمَّا يٌنْصَحُ به حاليا. قال الرازي: “وَقتَ الوباء دَعِ الْأَطْعِمَة الرّطبَة، وافْصَدْ[14]، وَاحْذَرِ الامتلاءَ وَالشربَ وَكَثْرَةَ الْجِمَاع وَكَثْرَةَ النّوم. وأسْهِلْ بالمطبوخ، وكُلِ الْأَطْعِمَة السريعةَ الهضمِ اللطيفة، وَالْجُلُوس فِي الْحمام، وتعاهَدِ السَّكَنْجَبِين والجُلاَّبَ[15] والطينَ الأرمني[16] بِالْمَاءِ والخل، ومُصَّ الرُّمَّان والإجاصَ، وَمُرْ أَن يُرشَّ فِي الْبَيْت خلٌّ وحِلْتِيتٌ[17]. وَاجْعَلْ طَعَامَكَ عَدَساً وقَرْعاً ومَاشاً[18] وَنَحْوِه، فَإِن هَذَا أَمَانٌ من ‌الطَّاعُون. قَالَ ج: أَنه لما حدث الوباء لم يتَخَلَّص أحد إِلَّا أَصْحَاب الصَّيْدِ لإدمانِهم الرياضةَ”[19].

وفي المقابل كانت فئاتٌ أُخْرى من المجتمعِ تحاربُ الوباءَ بالجهْلِ والرَّجاءِ والحماسِ الديني الزائد، حماسٍ يذكرنا ببعضِ المشاهدِ التي عايشناها في بدايةِ الحجْرِ، عندما اهتزَّتْ بعضُ الحناجرِ بالتكبيرِ والدُّعاءِ من الشُّرُفاتِ والأسطُحِ، واندفع البعضُ إلى الشوارعِ للصلاة فيها تحت الأمطار. هذه الأحداث وقعَ ما يُشْبِهُها في مجتمعاتٍ سابقةٍ وكانت وَبالاً على تلك المجتمعات. قال ابن حجر في أحداث سنة 833 هـ: “في نصف جمادى الآخرة جَمَعَ الشريفُ كاتبُ السر أربعين شريفاً، اسمُ كل منهم محمد، وفَرَّقَ فيهم مالاً، فقرأ بعْدَ صلاةِ الجمعةِ بالجامعِ الازهرِ ما تيسَّرَ من القرآن. فلَمَّا أن قَرُبَ العصرُ قاموا فدَعَوا وضَجُّوا. وكَثُرَ الناسُ معهم في ذلك إلى أن صَعَدَ الأربعُون إلى السطحِ، فأذَّنوٌا العصرَ جميعاً وانْفَضُّوا. وكان بعضُ العَجَمِ قال للشريف إن هذا يدفعُ ‌الطاعونَ، ففعل ذلك. فما ازدادَ ‌الطاعونُ إلا كثرةً”[20].

والمثيرُ للانتباهِ في هذا النص هو التزامُ المؤرخِ بالحقيقةِ في وصْفِ مآلاتِ هذا الحدثِ رغْمَ مُلابَسِتهِ للدين، وقد تَعَوَّدنا من المؤرخين المسلمين أن يُحيطوا الشأنَ الدينيَّ بالمعجزاتِ والكراماتِ. مثلما يحدُثُ في الاستسقاءِ الذي غالباً ما ينتهي في رواياتهِم بنزولِ الغيْثِ حالاً على رؤوسِ المُصَلِّين. لكن مع الطواعين كان الأمرُ مختلفاً. قال ابن العجمي:

“ثُمَّ في يوم الاثنين ثالث عشري ربيع الأول خَرَجَ الكافلُ[21] والقضاةُ والمشايخُ والعَوَامُّ ومعهُم المصاحفُ وأعلامُ الجوامعِ إلى قَرَنْبِيا[22]، ورَفَعُوا أصْواتَهم بالدعاءِ والتضَرُّعِ إلى الله تعالى. وقَرَّبَ الكافِلُ قُرباناً للفقراء. ورجَعُوا، فظَهَرَ الوباءُ ظُهورًا لم يكُن قبلَ ذلك. وأذكَرَني هذا ما قاله شيخُنا أبو الفضل بن حجر أن في سنة تسعٍ وأربعينَ وسبعِمائة وقعَ ‌الطاعونُ بدمشق، وخرَج الناسُ إلى الصحراءِ ومُعظَمُ أكابرِ البلادِ، ودَعَوا واسْتَغاثوا. فعَظُمَ ‌الطاعونُ بعدَ ذلك وكَثُرَ.[23]

4. التدابير الرسمية لمواجهة الوباء

من الأحداثِ البارزة في جائحة كورونا الحالية ما اتخذته الدوائر الرسمية من مبادرات للحد من الوباء وتخفيف تبعاته الاجتماعية، مثلَ فرْضِ الحجر الصحي، وزَجْرِ المخالفين، وخلْقِ صندوقٍ لجمْعِ التبرُّعات، وتقديمِ الدواءِ للمُصابينَ والإعاناتِ للمُحْتاجين. مع ما رافق ذلك من مبادرات خيرية من بعض الهيئات والأفراد.  فهل حدث مثل هذا قديما؟

للجوابِ أستحضرُ قولَ شِكْسبير: المصائبُ لا تأتي فُرادَى. فالأوبئةُ كثيرا ما كانت تجِيءُ مَسْبوقَةً أو مَرْفُوقَةً بالمجاعاتِ والاضطراباتِ السياسيةِ والاجتماعيةِ. وكانت أحيانا تتسَبَّبُ في زَوالِ دُوَلٍ، وظهُور أخرى. أما الشعوبُ فكانت في تلك الظروف في الغالب تُتْرَك لمصيرها. وأحياناً كانت الأنظمةُ تتخِذُ قراراتٍ غيرِ مُتَّزِنَة تكونُ وبالاً على تلكَ الشعوبِ. وقَدْ مَرَّ بنا شيءٌ من هذا، مِثْلَ جمْعِ الناسِ للصلاةِ والدعاءِ. مما كان يتسبَّبُ في استفحالِ العَدْوى، أو فَرْضِ الحجْرِ على النساءِ وحْدَهُنَّ دونَ مراعاتٍ لأحوالهِنَّ.

لكنَّ هناك بعضُ الحالاتِ التي

playstore

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا